(هوامش الغولة )المودودي الدود يكتب : دولة الامتياز المتجدد كيف أعادت الحاضنة الاجتماعية إنتاج نفسها بعد الاستقلال؟
من يظن أن الدولة السودانية الحديثة كانت نتيجة قطيعة حاسمة مع الماضي الاستعماري يخطئ التقدير. فالدولة التي تأسست بعد 1956 لم تكن كيانًا وطنيًا جديدًا بل كانت في جوهرها استمرارًا ناعمًا للمؤسسة الاستعمارية ولكن بوجوه محلية ولهجة سيادية.
الفصل الثالث من ورقة الدولة الغولة يضعنا أمام لحظة مكاشفة لم تكن الدولة السودانية لحظة استقلال بل لحظة توريث بنية الامتياز إلى طبقة هجينة من الزعامات القبلية والطائفية والأفندية.
لم تكن الحاضنة الاجتماعية مجرد تحالف مؤقت أنجبته اللحظة الاستعمارية بل كانت كيانًا سياسيًا مرنًا أعاد تشكيل نفسه مع كل أزمة وتحول. خرجت من رحم تحالفات الاستعمار زعامات الشمال النيلي الطرق الصوفية وطبقة الأفندية. وبعد الاستقلال امتصت التيار الإسلامي الصاعد ثم احتوت البيروقراطيات التنموية وفتحت الطريق أمام الإسلاميين في الدولة بعد 1989ولكن دون أن تتنازل عن جوهرها السيطرة على أدوات الدولة والقرار والثروة.
فالحاضنة لم تكن حزبًا أو نخبة بل بنية مركّبة تتلون حسب السياق وتعيد إنتاج نفسها من الداخل فهي تفتح مؤسسات الدولة لمن تختار وتعيد فرز المجتمع عبر القانون والتعليم والهوية والإعلام وكل ما هو رسمي ومؤسسي.
الامتياز عبر المعرفة
لم يكن التعليم النظامي مجرد وسيلة لنقل المهارات بل كان أحد أخطر أدوات الفرز الطبقي والثقافي. فقد احتكرته مدن الشريط النيلي الخرطوم ود مدني عطبرة دنقلا بينما تُركت الأقاليم الأخرى خارج المعادلة. ووفقًا لتقارير الإدارة البريطانية لم يُفتح في جنوب السودان سوى ثلاث مدارس ثانوية حتى عام 1946 مقابل 47 في الشمال.
وقد تجلى التفاوت في رمزية المؤسسات التعليمية نفسها فقد كانت كلية غوردون التذكارية التي أصبحت لاحقًا جامعة الخرطوم حكرًا شبه حصري على أبناء النخب السياسية والدينية من وسط وشمال السودان مثل أبناء الميرغني والمحجوب وفي مرحلة ما ابناء الكيزان. وكانت مدرسة حنتوب الثانوية ووادي سيدنا بمثابة مصانع نخبة تنقل أبناء الشمال النيلي مباشرة إلى مواقع السلطة سواء في الجيش أو الإدارة أو السلك الدبلوماسي. هذا التراكم البنيوي في الامتياز انعكس لاحقًا في نسب القبول الجامعي فبحسب تقارير اليونسكو لعام 1975 لم تتجاوز نسبة طلاب دارفور في الجامعات السودانية 2% رغم أن الإقليم شكّل حينها نحو 20% من سكان السودان.
هكذا تحوّلت المعرفة إلى بوابة الامتياز واللغة إلى أداة استبعاد من يُتقن العربية يحظى بوظيفة ومن لا يتقنها يُقصى.
الامتياز الاقتصادي
لم يكن الامتياز في السودان مجرد هيمنة سياسية أو رمزية بل تَجذّر اقتصاديًا عبر مشاريع التنمية التي خُطط لها لتُعيد إنتاج الامتياز الطبقي والجهوي. مشروع الجزيرة الذي يُفترض أنه أكبر مشروع تنموي في تاريخ السودان الحديث حُوِّل فعليًا إلى أداة لتمليك الأرض لأبناء النخبة المركزية بينما حُرم منه أبناء دارفور وكردفان والجنوب بشكل ممنهج. فبحسب الوثائق التاريخية ذهبت نحو 90% من الحواشات إلى النخب الشمالية. ولم يكن ذلك ناتجًا عن توزيع عشوائي بل عن قرارات موثقة تحمل أسماء وعائلات محددة عائلة المهدي مثلاً حصلت على أكثر من 400 فدان، فيما نالت عائلة السيد علي الميرغني وأتباعها امتيازات تجاوزت 600 فدان وهو إرث امتد مباشرة من الحقبة الاستعمارية. في المقابل رُفضت طلبات مزارعين من أقاليم الهامش. يُوثق تقرير لجنة التوزيع الزراعي عام 1954 منع آدم جمعة، وهو مزارع من كردفان من امتلاك 10 أفدنة فقط بحجة عدم انتمائه للقبائل الأصلية المعترف بها ضمن مناطق الزراعة المنظمة. وفقًا لتحليل توماس بيكيتي فإن اللامساواة الاقتصادية ليست مجرد نتيجة عرضية للتطور الرأسمالي بل نتاج منظومة سياسية وإيديولوجية تُكرّس امتيازات المجموعات المسيطرة وتُبرر الهيمنة التاريخية عبر مؤسسات الدولة لكن الخطير أن هذا النمط من الإقصاء الاقتصادي لم يتوقف بل تَمدَّد وتحوّل في الراهن إلى استهداف عنيف مباشر.
ففي السنوات الأخيرة خاصة بعد اندلاع الحرب شَهِدت ولايات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار وشمال السودان موجات استهداف ممنهج ضد مواطنين من دارفور وكردفان ليس فقط عبر التحريض العنصري بل أيضًا من خلال القتل المباشر والاعتقالات الملفقة ومصادرة الأراضي. كثير من الضحايا هم مزارعون يملكون أراضي زراعية استصلحوها لعقود لكنهم وُوجهوا بتهم باطلة وبتحريض مجتمعي وإعلامي يصوّرهم كغرباء أو معتدين.
ولذلك نجد اليوم آلاف الشبان من شمال السودان تمّت تعبئتهم وتحريضهم في حملات علنية هدفها استرداد الأرض من الغرباء في إشارة صريحة إلى المزارعين من أقاليم دارفور وكردفان . هذا الخطاب الذي تتبناه جهات رسمية في بورسودان وتدعمه مؤسسات الدولة افي بما فيها الجيش والنيابة والإدارة الأهلية لا يمثل سوى امتداد مباشر للسياسات القديمة التي حوّلت الاقتصاد إلى أداة قهر وتبعية بدلاً من أن يكون ساحة تكافؤ وتكامل.
هكذا يتكرّر منطق الامتياز الأرض المورد الأساسي للعيش تُستخدم مرة أخرى كسلاح لتكريس الهيمنة لا كمصدر عدالة وتنمية. فما بدأ بتوزيع حواشات في الجزيرة تحت إشراف المستعمر، يستمر اليوم عبر حملات تصفية واستهداف تستند إلى عقيدة إقصاء تاريخية لم تتغير، بل أعادت إنتاج نفسها بأدوات أكثر عنفًا وظلامية.
مؤسسات الدولة كجهاز للتمييز
التحوّل الأخطر كان في جوهر جهاز الدولة نفسه. فبدلاً من أن تكون بيروقراطية الدولة وسيلة لتنظيم المجتمع تحوّلت إلى جهاز لفرز الناس وترتيبهم ضمن هرم الامتياز. التوظيف لم يكن قائمًا على الكفاءة، بل على الولاء والانتماء الطبقي والمناطقي. وهكذا باتت الدولة ليست بوابة للعدالة بل مؤسسة لتوريث المواقع.
وفي دراسة أجرتها اللجنة الاستشارية لتنمية الجنوب 1956 تبيّن أن نسبة أبناء غرب السودان في السلك الدبلوماسي لم تتجاوز 5% وأنهم غالبًا ما شغلوا وظائف دنيا. كما تشير تقارير وزارة المالية إلى أن بين عامي 1956 و1960 تم تعيين عشرة مديرين عامين في وزارات حيوية مثل التجارة الخارجية، الداخلية المالية جميعهم من قبائل الشايقية والدناقلة والبديرية. التمركز الإداري في الخرطوم وعواصم الشمال وربط كل مفاتيح الترقي بالسيطرة على مؤسسات العاصمة، خلق بنية صلبة من التمييز المستدام.
رأس المال الرمزي
استُخدم الدين كما التعليم كغطاء لتبرير الإقصاء عبر خطاب وحدوي ظاهري يخفي تمايزًا هيكليًا عميقًا. فالسودان قُدِّم كبلد عربي إسلامي، دون أن يُعترف بثرائه اللغوي والديني والإثني. هذا الخطاب القومي الرسمي لم يكن توحيديًا بل إقصائيًا جُعلت ثقافة المركز هي السودان الحقيقي وكل ما عداها هو الهامش أو الاستثناء الدولة كآلة لإعادة إنتاج الحاضنة
الدرس الكبير هنا أن الدولة في السودان لم تكن مشروعًا وطنيًا جامعًا بل كانت منذ الاستقلال أداة لإعادة إنتاج حاضنة اجتماعية وُلدت في حضن الاستعمار وواصلت التحكم في مؤسسات الدولة تحت أسماء متعددة وطنية ديمقراطية تنموية، أو إسلامية.وحتى حين تسقط أنظمة الحكم، تبقى هذه الحاضنة قادرة على إعادة التموضع داخل الهياكل الانتقالية وتعيد إنتاج امتيازها عبر التمثيل الرمزي والتحالفات الطائفية، والسيطرة على مفاصل الدولة.
خاتمة
لم تكن الدولة الغولة جهازًا تقنيًا فاسدًا فحسب بل كانت منذ لحظة ميلادها أداة هندسية لإعادة إنتاج الامتياز التاريخي باسم القانون والوطنية والتنمية. لذلك فإن تغيير الحكومات أو كتابة دساتير جديدة لن يكون كافيًا ما لم يُمسّ جوهر البنية المنتجة للظلم الحاضنة الاجتماعية التي شكّلت الدولة على صورتها وخدمتها بوسائل ناعمة وصلبة في آنٍ واحد.
فما نحتاجه ليس مجرد إصلاح، بل عملية اجتثاث شاملة لأدوات التمييز وبناء بدائل عادلة. هذا يتطلب تدخلًا في أربع جبهات أساسية
- تفكيك احتكار المعرفة
يجب أن يبدأ الإصلاح من المدرسة والجامعة توزيع عادل للموارد التعليمية بناء مؤسسات في الأقاليم التي أُقصيت عمدًا لعقود إدماج اللغات والثقافات المحلية في المناهج وإنهاء هيمنة العربية الفصحى كلغة وحيدة للترقي والتمثيل.
لا يمكن أن تكون الخرطوم وحدها بوابة الدولة بينما تظل دارفور وكردفان والجنوب محرومة حتى من كتب التاريخ التي تروي مساهمتها. - إعادة تشكيل الاقتصاد السياسي
لا بد من تفكيك بنية الاقتصاد الريعي الذي يمنح الأرض والثروة لمن تربطه رابطة نَسَب إداري مع الدولة.يجب مراجعة قوانين الأرض والمشاريع الزراعية خصوصًا تلك التي كرّست الامتياز مثل قانون مشروع الجزيرة، وتوجيه الاستثمار إلى الأقاليم عبر سياسة تمييز إيجابي حقيقي.ويجب أن تتحول مؤسسات الدولة من ساحات للترضيات القبلية إلى مؤسسات للكفاءة والتمثيل الجغرافي المنصف. - تفكيك المركزية الرمزية والهوياتية لا يمكن بناء وطن جامع بهوية واحدة مفروضة. يجب الاعتراف رسميًا ودستوريًا بالتنوع الثقافي واللغوي والديني وفك ارتباط الوطنية بالعروبة والإسلام وحدهما.
المطلوب ليس فقط لا مركزية إدارية بل فيدرالية حقيقية توزّع السلطات والموارد وتُشرك الأقاليم في تعريف الوطن لا فقط في تنفيذ أوامره.
- إعادة تعريف مؤسسات الدولة
يجب تفكيك البيروقراطية الموروثة التي استُخدمت لتوريث المواقع والسلطة، عبر إنشاء لجان عدالة انتقالية تراجع ملفات التعيينات والترقيات والتمليك.
وإعادة بناء الأجهزة الأمنية والقضائية بعقيدة جديدة: الولاء للدستور والمواطنة، لا للحاضنة أو المركز أو الطائفة.
لا عدالة دون مؤسسات عادلة، ولا مؤسسات عادلة تُبنى من قلب الحاضنة.
أن الدولة ليست كيانًا محايدًا، بل هي انعكاس لتوازنات قهر تاريخية. والتغيير لن يبدأ من الأعلى، بل من القاعدة التي تعاني يوميًا من التهميش والتمييز وتُقصى من خريطة الإعلام والتاريخ والفرص.
فالوطن العادل لا يُصنع بشعارات فوقية، بل يبدأ من تفكيك جذور الظلم نفسها التعليم الذي يفرز الأرض التي تُمنح حسب الولاء القانون الذي يُصاغ لحماية النخبة والهوية التي تُختزل في لهجة واحدة.ما لم نكسر هذه البنية سنواصل إعادة إنتاج الدولة الغولة، مهما تغيّرت الأسماء والدساتير.
إرسال التعليق