كاربينو يكتب : السودان بين سؤال الهوية وامتحان التأسيس - صوت الوحدة

كاربينو يكتب : السودان بين سؤال الهوية وامتحان التأسيس

في لحظة انتقالية نادرة يمر بها السودان، تطفو على السطح أسئلة جوهرية لم يعد من الممكن تجاوزها، وفي مقدمتها سؤال الهوية، الذي ظل لعقود محاطاً بالصمت أو محصوراً في خطاب سطحي يروج للتعايش لا للعدالة، وللتنوع كمجرد مشهد فولكلوري لا كعنصر تأسيسي ، الحرب التي انفجرت في البلاد، بكل ما حملته من دمار، لم تصنع الانقسام، بل فضحته ، فجرت المكبوت، وأزالت الغلاف الرسمي عن هشاشة “الوحدة الوطنية”، لتكشف أن الدولة السودانية الحديثة، منذ ميلادها، لم تجب بصدق على سؤال من هو السوداني؟ وما معنى أن ننتمي لهذا الوطن كجماعة وطنية واحدة؟

إن الإشكال الجوهري في السودان لم يكن في وجود هويات متعددة، بل في غياب الاعتراف المؤسسي بها ضمن العقد التأسيسي للدولة ، فمنذ الاستقلال لم تُطرح الهوية الوطنية بوصفها مشروعاً جامعاً، بل جرى الالتفاف عليها بسردية أحادية تقفز على واقع التعدد الإثني والثقافي والديني، وتختزل السودان في نموذج ثقافي ولساني واحد ، هذا الغياب ليس مجرد تقصير في الصياغة، بل هو تعبير عن بنية سياسية خافت من أن تنفجر أسئلة التعدد في وجه السلطة، فأجابت عنها بالإنكار والتجاوز.

المناهج الدراسية والإعلام الرسمي وخطاب الدولة بكافة تجلياته، ظلت تصوغ ما يُسمى بـ”السوداني النموذجي” وفق تصور ضيق، يستبطن مركزية ثقافية وجغرافية واجتماعية واحدة ، لقد تم تقديم لسان محدد، ولباس محدد، ونمط سلوك معين، بوصفه التعبير الصحيح عن الوطنية، بينما جرى دفن الهويات الأخرى تحت صمت طويل ومقصود ، لم يكن الأمر مجرد غفلة، بل كان إعادة إنتاج مُؤسسة لسلطة ترى في التعدد تهديداً لا مورداً ، فكان الإقصاء الرمزي هو البوابة للإقصاء السياسي والاجتماعي، وهو ما مهد لصراعات طويلة في الأقاليم، كانت الدولة المركزية فيها حاضرة بالغياب، وسيدة بالتجاهل.

لم تكن الحرب الأخيرة انقساماً طارئً، بل تجل مباشر لانهيار سردية الوحدة الزائفة التي بُنيت عليها الدولة منذ نشأتها ، لقد سقط الخطاب الوطني في لحظة الحقيقة، حين بدا واضحاً أن لا أحد يشعر بتمثيله الكامل في هذا الوطن، وأن الخرائط السياسية التي ظلت تُرسم فوق أجساد المهمشين، لم تكن كافية لتصنع انتماءً حقيقياً ، كشفت الحرب أن البنية الوطنية كانت مفرغة من محتواها الرمزي، وأن ما كان يُروج له من وحدة، لم يكن سوى توافق قسري على إنكار الخلاف لا تجاوزه ، فما كان مختبئًً تحت طاولة الإنكار الثقافي، خرج إلى السطح على شكل عنف، وانتقام، وتفكك شعوري للدولة.

الوطن لا يُبنى من الخرائط، بل من الشعور الداخلي بالمساواة والانتماء ، والهوية الوطنية ليست فكرة جاهزة تُفرض من الأعلى، بل نتيجة لتاريخ من الشراكة العادلة، والتمثيل الحقيقي، والاحترام المتبادل ، إن المواطن الذي لا يرى نفسه في لغة الدولة، ولا في إعلامها، ولا في احتفالاتها، ولا في رموزها، لا يمكن أن يؤمن بهذا الوطن إلا بوصفه جغرافيا يمر بها، لا وطناً يعيش فيه ، وهذا ما يفسر اتساع الفجوة بين المركز والأطراف، بين من يملكون حق تسمية الوطن، ومن يُجبرون على الصمت داخله ، وفي هذه الهوة، سقط السودان القديم، وولد سؤال لا مهرب منه ، من نحن؟ وكيف نُعيد بناء وطن يتسع للجميع، لا يبتلعهم؟

تبدو حكومة التأسيس المقبلة في مواجهة استحقاق تاريخي لا يحتمل المواربة هل ستعيد إنتاج السودان القديم بمفرداته الإقصائية وآلياته المركزية، أم تؤسس لسودان جديد يعترف بتعدده لا بوصفه ظرفاً طارئً بل كأصل تكويني؟ هذا ليس سؤالًا ثقافياً فحسب، بل سؤال دولة، لأن أي مشروع وطني لا يستند على عقد اجتماعي يضمن المساواة بين المكونات، ويؤسس لشراكة رمزية وسياسية عادلة، هو مشروع مؤجل للانفجار.

الهوية الوطنية ليست شعاراً فوقياً تفرضه السلطة، بل شعور داخلي بالمساواة والانتماء، لا يتحقق إلا حين يرى كل مواطن نفسه ممثلاً في اللغة الرسمية، وفي المناهج التعليمية، وفي الإعلام القومي، وفي ذاكرة التاريخ المروي ، ما لم يتم الاعتراف بالجرح الثقافي الذي راكمته الدولة، لا مصالحة ممكنة، ولا تأسيس حقيقي يمكن أن يقوم على أنقاض الكتمان والإنكار ، التأسيس الحق يبدأ من الجرأة على الاعتراف، ومن إعادة تشكيل الخيال السوداني العام ليصبح جامعاً لا مفرزاً ، تعددياً لا مختزلاً ، إنسانياً لا استعلائياً.

السودان لا يعاني من فائض هويات، بل من فقر مشروع وطني جامع ، كل محاولات رتق الجغرافيا بلا مراجعة للهويات، هي مجرد هندسة مؤقتة سرعان ما تنهار ، وما لم تتم صياغة سودان جديد يؤمن بأن تنوعه مصدر قوته لا سبب ضعفه، فإن سؤال الهوية سيظل الخطر المؤجل الذي ينسف كل محاولات البناء ، حكومة التأسيس مطالبة بأن تضع هذا الملف في صدارة أولوياتها، لا كشعار تنموي، بل كركيزة وجود، لأننا إذا لم نتفق على من نكون، فلن نعرف إلى أين نمضي.

إرسال التعليق

لقد فاتك