من الإنقاذ إلى ما بعد الثورة : إعادة إنتاج الدولة الفاشية بقناع التغيير

حين استولى نظام الإنقاذ على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989، رفع شعار “هي لله”، لكن الواقع أثبت أن الإنقاذ كانت تتبنى مشروعاً سياسياً غايته إعادة هندسة الدولة على أسس أكثر فاشية من سابقاتها. لم تكن الحركة الإسلامية تنوي فقط السيطرة على الحكم، بل السيطرة على الوجدان السوداني، وتصفية كل مظاهر التعدد الثقافي والعرقي من أجهزة الدولة، والإعلام، والمناهج التربوية.

في تسعينيات القرن الماضي، تم فرض “المشروع الحضاري”، وهو الاسم الرمزي لأسلمة الدولة وتعريبها الكامل، مع قمعٍ ممنهج لأي تعبير ثقافي أو سياسي لا ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي العروبي. حُظرت اللغات غير العربية من المدارس، وصُنّفت الموسيقى والرقصات التراثية لجبال النوبة والجنوب ودارفور على أنها “جهل” و”وثنية”. أصبح الانتماء للوطن مرهوناً بالانتماء إلى مركز السلطة: ديناً، وثقافةً، ولساناً.

في حرب دارفور (2003–2009)، بلغ هذا الخطاب ذروته، حين اعتُبرت مطالب الحركات المسلحة في دارفور تهديداً للدولة الإسلامية، وتم تصنيف أبناء العرب الرحل في الإقليم كأدوات للحرب، بينما صُوّرت المجتمعات الأخرى كضحايا بحتة. لكن الواقع كان أكثر تعقيداً؛ فقد استخدم النظام قبائل عربية وغير عربية، وأشعل نار الفتنة بين المكونات المحلية، بينما بقي هو المستفيد الوحيد من هذا الانقسام.

خلال تلك الحقبة، لم يكن الفن بريئاً؛ استُخدمت المنصات الإعلامية الرسمية للدولة، والمسرح، والدراما لتصوير الغرب السوداني كمنطقة غير مستقرة، وأبنائه كمليشيات أو لاجئين. في حين رُوّجت صور نمطية عن “السوداني الكامل” باعتباره متعلماً من الشمال النيلي، ناطقاً بالفصحى أو العامية الخرطومية، أنيق الملبس، ذو ذوق حضري مهيمن.

ثم جاءت ثورة ديسمبر 2018، فهتف الجميع بـ”حرية، سلام، وعدالة”. ظنّ الهامش أن وقت التحرر قد آن، وأن الدولة ستُعاد تأسيسها على أسس جديدة تعترف بالمهمَّشين وتُشركهم في القرار. لكن ما حدث كان عكس ذلك؛ أُعيد إنتاج النخبة المركزية في ثوب جديد. تحالف قوى الحرية والتغيير، رغم شعاراته الثورية، لم يخرج عن ذات المنطق القديم، حين تفاوض وحده مع الجيش، وتجاهل الحركات المسلحة والمجتمعات التي دفعت ثمن الحروب.

حتى في حكومة الثورة، بقيت الوزارات السيادية في قبضة أبناء المركز، وتواصل تهميش مناطق النزاع تحت شعارات “ترتيب الأولويات” أو “الانتقال السلس”. وأُعيدت نفس التمثيلات في الإعلام والفن، وكأن الثورة لم تكن ثورة وعي، بل إعادة تدوير لنفس الوجوه بأقنعة جديدة.

ما بعد الثورة شهد استمرارية للخطاب الإقصائي في الإنتاج الثقافي. لم تُنتَج رواية كبيرة أو مسلسل تلفزيوني يُنصف رواية دارفور أو جبال النوبة أو الشرق. لم تُفتح المسارح لقصص القرى المحترقة أو اللسان المنسي. حتى الكتب المدرسية الجديدة لم تُدرج فيها لغات المناطق الأخرى، ولا تاريخهم الحقيقي، بل استمرت في تمجيد نفس السرديات عن “الفتح التركي” و”الدولة المهدية” دون مساءلة دورها في التهميش القومي.

خاتمة

لا يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي دون تحول جذري في مفهوم الدولة ومؤسساتها. الاعتراف بالتعدد ليس مَنّة، بل شرط لبقاء السودان ككيان موحد. ما لم تُعاد كتابة القصة الوطنية، بحيث يكون “الهامش” جزءاً من النص، لا هامشه، فإن كل ثورة لن تكون سوى هدنة مؤقتة قبل انفجار آخر.

إن من يُطالبون بالفكاك من هذه الدولة العرقية الفاشية لا يدعون إلى الانفصال، بل إلى الإنصاف. وأول طريق العدالة هو أن نعيد للناس حقهم في أن يُمثَّلوا، لا كرموز في خطاب النخبة، بل كفاعلين في رسم مصير بلادهم

إرسال التعليق