كاربينو يكتب : تعليم بلا ذاكرة التحدي الأكبر أمام حكومة تأسيس
ليس من العدل أن نطالب بتعليم فاعل في دولة انهارت فيها أبسط مقومات الإدارة، لكن من الظلم الأكبر أن نصمت عن حجم الكارثة التي تطال الملايين من التلاميذ والطلاب في ظل فراغ كامل، لم تتركه حرب فقط، بل خلفته سنين من التآكل المؤسسي والتهميش المتعمد والفساد الإداري والفكري ، إن حكومة التأسيس القادمة، إن أرادت لنفسها أن تخرج من دوامة الشعارات، فعليها أن تتعامل مع ملف التعليم بوصفه المدخل الأخلاقي والسياسي لبناء أي معنى لوطن ما بعد الحرب.
لقد انعدم كل ما يمكن الركون إليه كذاكرة تنفيذية للقطاع التربوي، فلا سجلات محفوظة لتاريخ المؤسسات، ولا ملفات توثق للكوادر، ولا دليل لمن هم في مقاعد الدراسة أو من تقطعت بهم السبل في المنافي ، المؤسسات التعليمية ليست فقط مدمرة مادياً، بل مفرغة رمزياً من معناها ووظيفتها ، لم تعد المدرسة مكاناً آمناً للمعرفة، ولا صلة لها بالهوية ولا بالتنمية، بل باتت فكرة مفقودة في وعي الدولة والمجتمع على السواء.
سيواجه القائمون على التأسيس سؤالاً مريراً ، كيف يُعاد بناء سلم تعليمي فقد ركيزته؟ بأي مناهج؟ ولأي غاية؟ ومن سيعلم؟ أين المعلمون؟ وكيف تُستعاد الثقة في التعليم وقد تشرذم، وفقد رسالته، وانكفأت كلياته ومعاهده؟ لا أحد يمتلك قائمة معتمدة بعدد المدارس القائمة، ولا بنية إحصائية للطلاب، ولا تصور واضح لكيفية ربط التعليم القومي بالمبادرات المحلية دون أن يتحول إلى مزاج إداري عشوائي ، إن انفصال التعليم عن الأرض والمجتمع أحد أخطر تمثلات ما بعد الانهيار.
التحديات التقنية لا تقل وطأة إذ أن الأجهزة التعليمية من معامل ووسائط رقمية وبنى تحتية للمدارس، تم نهبها أو تدمرت كلياً ، لم تعد هناك مكتبات مدرسية، ولا معامل حاسوب، ولا خرائط جغرافية، ولا حتى سبورات في بعض القرى او المدن وقد أضحى بناء مدرسة الآن أصعب من بناء وزارة ، وتبقى المعضلة الكبرى في الاعتراف الدولي بالشهادات السودانية والجامعية ، وهو أمر يتطلب ليس فقط استقراراً إدارياً، بل تجديد الثقة في النظام التعليمي ككل، وإعادة ربطه بمؤسسات التعليم الإقليمي والدولي، وهي مهمة شاقة على بلد يُعاد بناؤه من نقطة الصفر.
ثم هناك سؤال مصيري ماذا عن أولئك الطلاب الذين وجدوا أنفسهم مشتتين في دول الجوار والمهجر؟ بأي وثيقة سيواصلون تعليمهم؟ كيف تعترف بهم الجامعات الأجنبية إن كانت الدولة نفسها عاجزة عن توثيق مستواهم الأكاديمي؟ كيف يمكن اعتماد الشهادات الوطنية وهي بلا مؤسسة تمنحها، ولا إدارة تصادق عليها، ولا سياسة تعليمية تحمي مضمونها؟ إن إعادة الاعتراف الدولي بالتعليم السوداني ستكون معركة سيادية، لا إدارية فقط، وتتطلب مساراً دبلوماسياً موازياً.
ثم هناك السؤال الكبير هل نعيد ترميم النظام التعليمي القديم كما كان، أم نُبدع نموذجاً جديداً ، لا يعيد إنتاج المركزية الخانقة ولا يقفز نحو الرقمية الفارغة بلا أساس؟ هل نمتلك الشجاعة لإشراك المجتمعات المحلية في إدارة التعليم؟ هل يمكن تحويل المعلمين النازحين إلى نواة لإعادة البناء في الأطراف؟ هل نُنشئ نظاماً تعليمياً طارئً يتعامل مع الواقع كما هو، لا كما نريده أن يكون؟ إن التأسيس لا يعني فقط فتح المدارس والجامعات ، بل إعادة تخيل التعليم كرافعة حضارية وسط الخراب.
ما تحتاجه حكومة التأسيس في التعليم ليس فقط إجراءات إسعافية أو حلول قصيرة الأجل، بل ما هو أقرب إلى “عقد تعليمي جديد” يضع أسساً حديثة لنظام تعليمي بديل يتجاوز المركزية الميتة، ويستثمر في المبادرات المجتمعية، ويعتمد الرقمنة كأداة وليس رفاهية، ويركز على دعم الكفاءات المحلية ، إن التأسيس الحقيقي يبدأ حين يصبح التعليم أولوية مطلقة، لا شعاراً سياسياً ولا ملفاً في درج بيروقراطي.
كل هذه الأسئلة ليست ترفاً فكرياً، بل تمثل اشتراطات واقعية ينبغي أن تضعها حكومة التأسيس على الطاولة منذ اللحظة الأولى، ليس بانتظار الاستقرار، بل كجزء من صناعته ، التعليم ليس قطاعاً موازياً للسياسة، بل هو السياسة حين تكون في أنبل تجلياتها ، وحكومة التأسيس إذا تغافلت عن هذه المعركة، ستؤسس لأمة بلا ذاكرة، ولجيل بلا مستقبل، ولشعب بلا أدوات للبقاء



إرسال التعليق