ما بين ضعف أدوات الحركات المسلحة وسطوة نخب الشمال
في ظل الصراع الدموي الذي يعيشه السودان بين القوات المسلحة و”قوات RSF”، تبرز أزمة أعمق من مجرد صراع بين قوتين عسكريتين، إنها أزمة تعدد الأطراف التي دخلت المشهد دون امتلاك أدوات الفعل السياسي أو العسكري المؤثر.
ما يحدث مع الدكتور جبريل إبراهيم، زعيم حركة العدل والمساواة، بعد سلسلة من التهميش والمزايدات عليه، يكشف هشاشة البنية السياسية والعسكرية للحركات المسلحة الدارفورية، خصوصًا حين تحاول تجاوز دورها التقليدي والحياد الاستراتيجي إلى الاصطفاف مع طرف عسكري على حساب آخر.
⸻
أزمة جبريل وتراجع النفوذ
منذ دخوله المشهد السياسي عبر اتفاق جوبا للسلام، ظن جبريل أن بإمكانه، من خلال وزارة المالية وتحالفاته داخل المجلس السيادي، أن يرسخ لنفوذ سياسي مستقر ويحول حركته من تنظيم مسلح إلى فاعل سياسي. أراد أن يكون بديلاً للRSF، لا شريكًا مؤقتًا.
لكن مع تصاعد الحرب، اصطف جبريل بوضوح إلى جانب الجيش، معتقدًا أن هذا التموضع سيمنحه الأفضلية في ترتيبات ما بعد الحرب. غير أن حساباته اصطدمت بتغول نخب المال والاقتصاد من أبناء الشمال، الذين التفّوا حول البرهان، وبدأوا في ممارسة نفوذ سياسي واقتصادي شبيه بما كان يمارسه الإسلاميون (الكيزان). وفي المفارقة، فإن البرهان، الذي يسعى لحكم مستقل، فضل هذه النخب على الكيزان بسبب تعارض الأخيرين مع طموحاته، رغم تطابق أهدافهم في السيطرة القبلية على الدولة.
تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء، بدعم مباشر من دوائر رأس المال والقبائل النافذة في الشمال، شكّل نقطة تحول حاسمة في مسار جبريل. إذ بدأ إدريس في إعادة هيكلة المشهد التنفيذي واضعًا نصب عينيه استعادة وزارة المالية من جبريل، الذي بات يُنظر إليه كشخصية مكلفة سياسيًا، ولا تعبّر عن “رؤية الدولة الجديدة” التي يراد فرضها.
⸻
خطوات الإقصاء
بدأت حملة إقصاء جبريل بتحجيم نفوذه في اللجنة الاقتصادية، ثم تهميشه إعلاميًا من خلال حملات ممنهجة صورته كرمز للفساد والمحسوبية الزغاوية. وما قضية شيبة ضرار إلا جزء من هذا المشهد.
وانتهت تلك الحملة بمحاولات لإزاحته من موقعه التنفيذي عبر ضغوط ناعمة وأخرى صلبة، مدفوعة بإرادة العسكر وبعض الحلفاء الإقليميين الذين يرون أن التمكين لأبناء الشمال هو بوابة إحكام السيطرة على السودان، وتحويله إلى حديقة خلفية للموارد.
⸻
أزمة الحركات المسلحة: ضعف بنيوي مزمن
ما يحدث مع جبريل ليس استثناءً، بل هو انعكاس لمأزق تعيشه معظم الحركات المسلحة في دارفور. هذه الحركات التي نشأت في سياق احتجاج على مظالم الهامش، لم تطوّر خطابًا وطنيًا جامعًا يشمل نضال الهامش في جبال النوبة والنيل الأزرق، وظلت أسيرة لبراغماتية انتهازية تبحث عن المناصب لا عن الحلول الجذرية للأزمة الوطنية.
ومع اندلاع الحرب في 2023، وجدت نفسها أمام معادلة صعبة: إما الانخراط في معركة لا تخصها، أو خسارة امتيازاتها المستفادة من اتفاق جوبا.
فأغلب هذه الحركات، وعلى رأسها العدل والمساواة وحركة مناوي، انحازت إلى الجيش لا عن قناعة بمشروع الدولة، بل لحماية مكاسبها. لكنها لم تدرك أنها دخلت في تحالف هش مع مؤسسة عسكرية مخترقة من قبل الإسلاميين، وتحالفات قبلية واقتصادية شمالية تمتلك أدوات السيطرة والإقصاء.
⸻
الحياد الاستراتيجي: الفرصة التي ضاعت
كان يمكن لتلك الحركات أن تلعب دور الوسيط التاريخي، أو أن تتموضع كقوى وطنية فوق النزاع، داعية لحل سياسي شامل. لكن انحيازها الواضح للجيش أفقدها المصداقية أمام قواعدها، وأعطاها صورة من يقاتل بالوكالة عن نظام قديم يعيد إنتاج نفسه.
جبريل، تحديدًا، خسر جزءًا كبيرًا من رصيده السياسي حين أصرّ على البقاء في وزارة المالية، وأصبح أداة بيد تيارات قبلية لا تحترمه، ولا تراه سوى وسيلة مؤقتة لخدمة أجنداتها.
⸻
أزمة نخبوية سودانية
أزمة جبريل والحركات المسلحة هي مرآة لأزمة أعمق تعاني منها النخبة السودانية عمومًا: غياب المشروع الوطني مقابل مشاريع سلطوية ضيقة.
نخب الشمال، رغم ما يقال عنهم، يملكون أدواتهم ويعرفون ما يريدون. أما الحركات المسلحة، فتدخل كل معركة على أمل اقتسام الغنائم، لا على أساس بناء الدولة.
ومن لا يمتلك أدوات السلطة ولا يعرف حدود تحالفاته، يتحول في نهاية المطاف إلى ضحية على مائدة الأقوياء.
هذا ما تجلى في خطاب جبريل الأخير، الذي حاول فيه إخفاء خيبة أمله بين نبرة الغضب وادعاء التماسك، بينما الحقيقة أنه فقد القدرة على رد الفعل، حتى بما يعادل ما ضحّى به “البوابون” من قواعد حركته.
⸻
مفارقة المرحلة
المفارقة أن القبائل العربية في دارفور وكردفان، بدأت اليوم بطرح جذور الأزمة السودانية في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بينما ظلت الحركات المسلحة التقليدية رهينة لذهنيات المناصب، في وقت تفرض فيه الطبيعة والتغيير واقعًا جديدًا قد يتجاوزها تمامًا، في كل المعسكرات
إرسال التعليق