السودان بين الماضي والحاضر

السودان بين الماضي والحاضر

منذ تأسيس الدولة السودانية في عام 1955م، وخروج المستعمر البريطاني، لم يعرف السودان استقرارًا سياسيًا ولا أمنياً. فقد أُ
سلمت السلطة إلى نخب سياسية كانت وما زالت خادمة لأجندات الاستعمار غير المباشر، ما يُعرف اليوم بالعملاء الذين وُضعوا في سدة الحكم لحماية الامتيازات الكولونيالية عبر دولة ما بعد الاستعمار.

نتيجةً لذلك، شهد السودان أكثر من ستين عامًا من الحروب الأهلية الطاحنة التي لم تفضِ إلى سلام دائم. السبب الجوهري لذلك هو استمرار الهيمنة الخارجية على القرار الوطني عبر نخبة سياسية عميلة، تُعيد إنتاج الدولة كأداة للتمييز والإقصاء. فيما يلي سردٌ مختصر لمسار هذه الحروب واتفاقيات السلام التي وُقّعت خلالها وما انتهت إليه.

الحرب الأهلية السودانية الأولى

اندلعت أولى الحروب الأهلية بعد عام واحد فقط من الاستقلال، حين حمل مواطنون جنوب السودان السلاح مطالبين بحقهم في التمثيل العادل في الحكم، وتوزيع منصف للثروة، أو على الأقل بحكم ذاتي إقليمي، بعد عقود من التهميش والظلم. راح ضحية هذه الحرب أكثر من مليون شخص. ورغم توقيع اتفاقيات سلام عديدة، ظلّت حكومة الخرطوم عاجزة عن الوفاء بها. أدى ذلك في نهاية المطاف إلى ظهور حركة تحرير جنوب السودان التي واصلت النضال حتى السنوات اللاحقة.

الحرب الأهلية السودانية الثانية

بعد أحد عشر عامًا من نهاية الحرب الأولى، اندلعت الحرب الأهلية الثانية بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان. شهدت هذه الحرب أعنف مراحل الصراع السوداني، إذ قُتل نحو مليوني شخص، وهُجّر أكثر من أربعة ملايين، في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية بعد الحرب العالمية الثانية. رغم توقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005، فإن الحكومة السودانية برئاسة عمر البشير لم تلتزم فعليًا بتنفيذ الاتفاق. وانتهى الأمر بانفصال جنوب السودان في عام 2011، نتيجة غياب الإرادة الحقيقية لبناء دولة مواطنة عادلة.

حرب دارفور

ما إن أُخمدت نيران الحرب في جنوب السودان، حتى اندلعت حرب أخرى في دارفور، مدفوعة بذات الأسباب: التهميش، الإقصاء، والتمييز البنيوي. استمرت حرب دارفور سبعة عشر عامًا، وأسفرت عن مقتل ما يقارب 300 ألف مواطن في عمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي، استخدمت فيها الحكومة السودانية كل أشكال الأسلحة المحرّمة دوليًا. رغم توقيع اتفاقيات مثل اتفاقية أبوجا، فقد فشلت بسبب هيمنة عقلية الغلبة والاحتيال السياسي، وافتقار الحكومة إلى أدنى رغبة في تنفيذها بصدق.

حروب أخرى في الهامش السوداني

لم تقتصر الحروب على جنوب السودان ودارفور. شهدت كردفان، النيل الأزرق، وشرق السودان (في إطار صراع التجمع الوطني الديمقراطي)، موجات متواصلة من النزاع المسلح، تكرّر فيها ذات النمط: حكومة مركزية تهيمن عليها نخبة سياسية معادية لفكرة العدالة الاجتماعية والوطن الجامع.

طبعاً، يمكن إعادة صياغة هذا المقطع ليعكس بدقة أن اتفاق جوبا انهار بسبب الانقلاب العسكري و الحرب الأخيرة. إليك الصياغة المقترحة:

اتفاق سلام جوبا وما بعده

بعد ثورة ديسمبر المجيدة، جرى توقيع اتفاق جوبا للسلام بين الحكومة الانتقالية وبعض الحركات المسلحة، في محاولة لفتح أفق جديد أمام السودان للخروج من دوامة الحرب. غير أن هذا الاتفاق سرعان ما انهار، ليس فقط بسبب هشاشته البنيوية، بل بفعل الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021، الذي قطع المسار الانتقالي وأعاد السلطة إلى ذات التحالف القديم بين النخب العميلة والمؤسسة العسكرية. ثم جاءت الحرب الأخيرة التي اندلعت في أبريل 2023 لتقضي عملياً على ما تبقى من الاتفاق، وتعيد السودان إلى أتون حرب شاملة، تُعيد إنتاج الأسباب ذاتها التي فجّرت الحروب السابقة: الإقصاء، التهميش، وغياب مشروع وطني جامع. وهكذا، وُئد اتفاق جوبا، كما وُئدت قبله اتفاقيات عديدة، بفعل استمرار بنية الدولة الكولونيالية وبقاء القوى المعادية للتحول الديمقراطي.

سؤال اللحظة: هل يمكن تحقيق سلام دائم؟

في ظل استمرار وجود هذه النخب السياسية وقيادات الجيش التي تُنفذ أجندات الخارج منذ عام 1956 إلى يومنا هذا، فإن الحديث عن سلام دائم يظل مجرد وهم.
لن يتحقق أي اتفاق سلام حقيقي طالما أن البنية الحاكمة في السودان لم تُجتث، وطالما بقي العملاء يتحكمون بمفاصل الدولة.
كل المبادرات المطروحة، بما فيها المبادرة الرباعية الأمريكية، لن تنجح طالما أنها تدور في فلك ذات النخب. فالتجربة تؤكد أن هذه القوى لا تنخرط في أي سلام إلا كمناورة تكتيكية لإعادة ترتيب صفوفها.

الطريق إلى سلام دائم يبدأ بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة: دولة مواطنة، ديمقراطية، ذات سيادة حقيقية، خالية من هيمنة أدوات الاستعمار القديم والجديد. ما لم يحدث ذلك، فسنظل ندور في حلقة مفرغة من الحروب والاتفاقيات الفاشلة.

إرسال التعليق