سردية القوة و الإنكار في مشروع الدولة الشمولي

سردية القوة والإنكار في مشروع الدولة الشمولي

منذ بواكير تشكّل الدولة السودانية الحديثة، ظلّ التمركز في الشمال النيلي يمارس دورًا فاعلًا في هندسة السلطة وموازينها، لا من باب التمثيل العادل، بل من مدخل الشمول والاحتكار. لم يكن هذا التمكين صدفة جغرافية أو تميّزًا ثقافيًا، بل نتاج مشروع شمولي مبيّت، استخدم أدوات الدولة الحديثة من تعليم وإدارة وأمن واقتصاد لتأسيس منظومة حكم تدور على قطب واحد للسيطرة الشاملة على الدولة.

وقد استطاعت نخب المركز، عبر تسلقها في أجهزة الدولة، أن تُعيد إنتاج ذاتها كمعيار للوطنية، فكل ما هو خارج هذا المركز يُحاكم بمنطقه، سواء في الثقافة أو الولاء أو حتى في تصور الانتماء الوطني. هذا التمركز، الذي بلغ درجة التقديس في الإعلام والتعليم، لم يكن إلا وجهًا من وجوه الشمولية السياسية في نسختها المحلية: الدولة تُمثِّل هوية جهوية ضيقة، والحاكم الحقيقي يُفترض أن يكون من المركز، والمعارض يُصوَّر تلقائيًا كخائن أو عميل.

وقد استخدم هذا المشروع أدوات متعدّدة، أبرزها الدعاية المكثفة، والقبضة الأمنية الصارمة، ما جعل هذا الأسلوب شبيهًا إلى حد بعيد بالأسلوب النازي بقيادة هتلر، من حيث البنية الدعائية القمعية وتصوير الزعامة كأيقونة مقدّسة. وتحول المنتقدون إلى ضحايا للرقابة والابتزاز والتمييز، كلما حاولوا التعبير عن هويتهم أو مصالحهم.

لقد أفرز هذا النظام بنية سياسية مغلقة على ذاتها، تُقصي كل من لا ينتمي إلى المركز. وما أن تعالت الأصوات من شرق البلاد وغربها وجنوبه، مطالبة بالتمثيل العادل، حتى وُوجهت بالقمع أو العزل أو الاتهام بالخيانة والارتباط بالأجنبي. فالمركز لا يخطئ، ومن يُشكّك فيه يُرجم بالتخوين.

وأدّى هذا النهج إلى خلق بيئة من الجمود والاضطراب، ناتجة عن تقاطع مصالح الفئات المهمّشة مع البنية المغلقة للدولة المركزية. ونتيجة لذلك، غاب الشعور العام بالوطنية، بسبب قناعة غالبية المكونات بأن الحكم محتكر من فئة واحدة، مما كرّس نظامًا أوتوقراطيًا تمحور حول جماعة ضيقة، تحتكر القرار وتفرضه دون رقابة أو مشاركة عامة، مستخدمة القمع أداة لحماية مصالحها الخاصة دون محاسبة.

لم يكن تمرد الجنوب، ولا الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة، سوى أعراض طبيعية لجسد وطني أُنهك بالإقصاء. فحين تحتكر أقلية مفاتيح الدولة، وتقصي الآخر بوصفه ناقضًا للعقد الاجتماعي، فإنها بذلك تؤسس لحرب أهلية مضمرة، تظهر متى ما اختل ميزان القوة.

وإذا كانت النازية الألمانية قد انهارت تحت وطأة الحرب، فإن الشمولية السودانية بوجهها المركزي وجدت نفسها اليوم في مهبّ الريح، بعدما تحولت أدوات القمع إلى سلاح مرتدّ، فانتقل العنف من يد الدولة إلى هامشها، وتحولت الضحية إلى فاعل مسلح يعيد رسم خريطة السلطة.

وفي المقابل، كلما أحس المركز بخطر الفئات المهمّشة، حاول احتواءها، وإن استعصى عليه الأمر، لجأ إلى العزل والتشويه، لا على أساس الأيديولوجيا أو التنظيم، بل على أسس عرقية وجهوية. هذا ما حدث، على سبيل المثال، في التمرّد الأول في جنوب السودان، حين جرى عزل مكونات بعينها وتغذية خطاب الكراهية تجاهها.

وقد تكرّر المشهد في دارفور، حيث تم استهداف مجموعات إثنية معينة بذريعة وجود مشروع سياسي خاص بها، فحوصرت، وأُقصيت، وأُبعدت من الأسواق والنفوذ، وأُخرجت من الفضاء السياسي.

وهنا بدأ العدّ التنازلي للمرحلة الأخيرة من المشروع الشمولي، حيث اتجهت الدولة إلى القمع المباشر والقوة المفرطة، مستهدفة مجموعات إثنية وجهوية تحت مزاعم الولاء لمشاريع خارجية، في تكرار لنفس الأساليب القديمة تجاه الحركات المسلحة.

وإن معركة 15 أبريل لم تكن سوى ذروة جبل الجليد، حيث تفكك المشروع الشمولي أمام أعين أصحابه، وسقطت أقنعة الطهرانية عن نخب ظلّت لعقود تتحدّث عن الوطن بينما تقصد امتيازاتها الخاصة.

وفي لحظة انهياره هذه، يبدو الاعتراف بالهزيمة السياسية والأخلاقية أكثر نبلًا من المكابرة. لكن المعضلة أن النخبة التي أدمنت الاحتكار لا تجيد لغة الاعتراف، بل تواصل إنتاج الأكاذيب القديمة، في حين يتقدم الهامش عسكريًا ورمزيًا.

لم يعد ممكنًا تجاهل أن ما يحدث اليوم هو انقلاب في بنية الدولة، يعيد تعريف من هو الجلاد، ومن هو الحكم. وقد آن لهذا الوطن أن يعيد بناء ذاته على أسس جديدة، لا تلغي أحدًا، ولكنها لا تضع أحدًا في موضع الإله.

فالزمن قد تغيّر، والذاكرة الجمعية لم تعد تقبل الطمس، وكل محاولة لإعادة إنتاج استبداد الشريط النيلي لن تكون إلا إعلانًا جديدًا لنهايته

إرسال التعليق

لقد فاتك