دار فور في فهم الصراع

عندما نتحدث عن الصراع في دارفور، نجد أن الكثير من التحليلات يغلب عليها الطابع السطحي أو التحيز لمصالح شخصية، في محاولة لاختزال المشهد في تفسيرات نمطية لا تعكس تعقيداته الحقيقية.

فالبعض يصوره على أنه مجرد نزاع بين الراعي والمزارع، بينما يحاول آخرون تأطيره في إطار صراع “عربي-زنجي” (عرب وزُرقة)، في محاولة لتبسيط الصراع وتصويره على أنه نزاع قبلي أو إثني فقط. وقد تجد أيضًا من يسعى لتشكيل الصراع على أنه مواجهة بين الهوية العربية والأفريقية، وهنا بالتحديد يظهر قدر كبير من التضخيم والمبالغة.

لكن الحقيقة أعمق من هذه التبسيطات، فدارفور لم تشهد فقط صراعًا عربيًا-إفريقيًا كما يروّج البعض، بل شهدت أيضًا نزاعات عربية-عربية، مثل صراع الرزيقات مع البني هلبة، والرزيقات مع المعاليا، والتعايشة مع السلامات، والسلامات مع البني هلبة، والهَبّانية مع الرزيقات، وبني حسين مع الرزيقات.

وبالمثل، لم تخلُ دارفور من صراعات إفريقية-إفريقية، كما حدث بين الزغاوة والفور، الزغاوة والقمر، القمر والفلاتة، الزغاوة والمساليت، المساليت والفور، البرقد والزغاوة، الفور والترجم، وغيرها من النزاعات.

ومن هذه الزاوية يمكن فهم الصراع في دارفور على أنه صراع اجتماعي داخلي بين مكونات الإقليم، كان من الممكن احتواؤه عبر آليات العرف والتقاليد المحلية مثل نظام “الجودية”، الذي طالما لعب دور الوسيط في حل النزاعات.

فقد كان شيوخ القبائل، والعُمد، والمشايخ، والشرتايات، هم الضامنون الأساسيون لحل الأزمات عبر مفاوضات تقليدية تُعقد تحت ظلال الأشجار أو على ضفاف الوديان، حيث يكون قرار الأجاويد مُلزِمًا للجميع.

إلا أن الأزمة بدأت تتفاقم بعد حل الإدارات الأهلية في عهد جعفر نميري، مما أدى إلى إضعاف سلطة الأعراف القبلية التقليدية، وتحويل مسار حل النزاعات إلى يد الحكومة، التي بدورها أعادت تعريف الصراع بشكل خاطئ على أنه صراع موارد بين الرعاة والمزارعين، بسبب عوامل مثل الجفاف والتصحر، مما دفع بعض الرعاة إلى التوغل في الأراضي الزراعية.

وسرعان ما تطور الصراع، ولم يظل في إطاره المحلي، بل أخذ طابعًا سياسيًا مع ظهور “حركة نهضة دارفور” بقيادة أحمد إبراهيم دريج، الذي تولّى منصب حاكم إقليم دارفور، ثم بروز داوود يحيى بولاد. وتحوّل النزاع لاحقًا إلى صراع مسلح، تقوده جماعات تحمل خطابًا سياسيًا يطالب بالمشاركة العادلة في الحكم، فيما عُرف لاحقًا بخطاب “المركز والهامش”.

كما تطورت المفاهيم السياسية إلى مفاهيم مثل “أصحاب الأرض الأصليين” و”المستوطنين الجدد”، وهي مفاهيم مستوحاة من أدبيات ما بعد الاستعمار، وقد لعبت الحكومة دورًا أساسيًا في تأجيجها بحجة إخضاع بعض الجماعات لسيطرتها.

وعند هذه النقطة، نشأت الحركات المسلحة، إلا أن الحكومة لم تتعامل معها بالحكمة، بل بدأت بقمع مباشر، دون معالجة جذرية، مما زاد من تعقيد الأزمة، التي أخذت طابعًا قبليًا ثم إقليميًا ودوليًا، مع انتشار السلاح في الإقليم نتيجة مخلفات الحرب الليبية-التشادية، والصراعات الداخلية في تشاد، والتداخل القبلي عبر الحدود.

وبعد أن خرج النزاع عن السيطرة، تدخلت الحكومة بشكل متأخر، وبأسلوب غير حكيم، في وقت كانت فيه المنظمات الدولية قد وجدت موطئ قدم لها في دارفور، مما جعل الصراع يتخذ بعدًا إقليميًا ودوليًا.

وهنا، لم تعد الحلول التقليدية ذات جدوى أو فعالية، وتم اللجوء إلى مؤتمرات صلح رسمية لم تؤدِّ سوى إلى إطالة أمد النزاع وتعقيده.

ثم جاءت اتفاقيات السلام الكبرى مثل نيفاشا، وأبوجا، والدوحة، وجوبا، لكنها لم تُسهم في حل الأزمة، بل زادتها تعقيدًا، حيث تحولت المسألة من نزاع اجتماعي قابل للحل إلى ساحة لتقاسم السلطة والثروة بين النخب السياسية المسلحة، بينما ظل المواطن البسيط مستبعدًا من العملية، يدفع وحده ثمن هذا الصراع. والنتيجة أن الأزمة لا تزال قائمة حتى اليوم، ولا تزال الحركات المسلحة نشطة، بل وتزداد قوة، ليصبح الإقليم أكثر اضطرابًا من أي وقت مضى.

في الختام، يمكن القول إن أزمة دارفور لم تكن حتمية، بل هي نتيجة فشل النخب السياسية التي حكمت السودان منذ الاستقلال وحتى اليوم. هذه النخب لم تخرج يومًا من الخرطوم لتفهم طبيعة الأقاليم الأخرى، ولم تدرك تركيبتها الاجتماعية أو أنماط حياتها.

في الوقت الذي كانت الإدارات الأهلية تمتلك حلولًا فعالة للنزاعات، اختارت الحكومات المتعاقبة تحويل الصراع إلى ورقة سياسية، ثم إلى أزمة أمنية، ثم إلى قضية دولية حتى فقدت السيطرة تمامًا

إرسال التعليق