حين يُعاقب الضحية بجُرم الجلاد

في خطوة أثارت جدلًا واسعًا، فرضت وزارة الخارجية الأمريكية عقوبات على السودان بسبب استخدام السلاح الكيميائي في الحرب الدائرة منذ أبريل 2023.. في ظاهر الأمر، قد يُفهم القرار على أنه إدانة لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن هذه العقوبات، وإن لبست رداء العدالة قد جانبت الصواب في تشخيص الجاني..

فالسودان كدولة، لم يستخدم السلاح الكيميائي، من استخدمه – وفق ما نقله شهود عيان وتقارير محلية وعالمية – هو الجيش ومليشيات تابعة له، ضد مواطنين مدنيين في مناطق متعددة.. آلاف الضحايا سقطوا جراء هذه الجرائم، بينهم نساء وأطفال، في مجازر لا يمكن توصيفها إلا بأنها جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة اعترف بها مسبقًا قادة الجيش حينما هددوا باستخدام القوة المميتة..

الخلط بين “الدولة” و”الجيش” في هذا السياق ليس مجرد خطأ إداري أو لغوي، بل يعكس ذهنية خطيرة تماهت مع خطاب المستبدين وورثة الاستعمار: أن الجيش هو الدولة، والدولة هي الجيش.. وهذا ما يسعى الشعب السوداني منذ سنوات لتفكيكه، لفصل المؤسسات العسكرية عن السياسة، ولتحقيق دولة مدنية عادلة تمثل الشعب، لا القتلة..

العقوبات – إن كانت تستهدف إحقاق الحق – ينبغي أن تُفرض على المؤسسة العسكرية المسؤولة عن الجرائم، وعلى قياداتها، لا على السودان كدولة أو شعب.. لأن ما يحدث اليوم هو معاقبة الضحية بجرم جلادها، والتغاضي عن المجرم الحقيقي..

المجتمع الدولي مطالب بمزيد من الوعي والتمييز، لا أن ينساق خلف تصنيفات عامة تكرّس الظلم.. وإن دعم نضال السودانيين من أجل التحرر والعدالة لا يكون بفرض عقوبات على بلد أنهكته الحرب، بل بملاحقة من تورطوا فعليًا في القتل والانتهاكات، وبالوقوف مع الحالمين بدولة تفصل الجيش عن الحكم، وتعيد للمدنيين حقهم في الوطن..

ما لا يريد البعض الاعتراف به هو أن أحد أسباب اندلاع هذه الحرب كان طرح ورشة “إصلاح القطاع الأمني والعسكري” ضمن الاتفاق الإطاري، والتي ناقشت – لأول مرة بشكل صريح – علاقة الجيش بالسلطة والسياسة، وبرز موقف قوات الدعم السريع بوضوح: فصل الجيش عن السياسة، إخراج المؤسسة العسكرية من الحكم، وتمكين المدنيين من قيادة الدولة.. كانت تلك مواقف شجاعة، مدروسة، ومتسقة مع تطلعات الثورة السودانية ومطالب الشارع الذي ضاق ذرعًا بالحكم العسكري وتبعاته الكارثية..

قوات الدعم السريع، ورغم الهجمة الدعائية الشرسة ضدها، ظلت تكرر في خطابها وفعلها أنها لا تسعى للحكم، ولا تريد فرض سلطتها، بل تقاتل من أجل بناء دولة مدنية، تكون فيها المؤسسات الأمنية حامية للوطن لا حاكمة له.. وهي رؤية، لو وُجد قليل من الإنصاف، لوجب أن تحظى بدعم المجتمع الدولي لا معاقبته ومعاقبة الشعب السوداني الذي يرفض أن يتحمل تبعات الإلتباس بين الدولة والجيش..

ليست هذه المرة الأولى التي يُخدع فيها الرأي الدولي بخطاب المؤسسة العسكرية التي لطالما نصبت نفسها “الدولة”، بينما هي في حقيقتها جسم مسلح اختطف مؤسسات الدولة ومارس سلطته بالقهر والدم، والأسى أن تُفرض عقوبات على بلد بأكمله، بينما الجاني معروف والضحايا معروفون..

ففرض العقوبات على السودان هو انقلاب على الحقيقة: المصلح يُعاقب، والمجرم يُمنح صكوك الدولة.. والعالم، إن كان جادًا في دعم التحول الديمقراطي، فعليه أن يراجع بوصلته، ويقف إلى جانب أولئك الذين يناضلون لفصل البندقية عن القرار، والسلاح عن السيادة..

ومن هنا فإن العقوبات الأمريكية، إن لم تُراجع، تصبح انحيازًا غير مباشر لرؤية الجيش، وتكريسًا لمعادلة المستعمر القديم: أن من يلبس البزة العسكرية هو من يستحق تمثيل الدولة.. وهو ما يناقض جوهر العدالة والحرية التي يتشدق بها الخطاب الغربي..

إرسال التعليق

لقد فاتك