النخب و التكييف و الاستجابة السريعة للمتغيرات
النظام الإثني الوراثي الذي تحكّم في مقدّرات الدولة منذ إعلان الجمهورية الأولى، لم يكن نتاج صراع سياسي عابر، بل حصيلة لترتيبات تاريخية أُحكم نسجها منذ لحظة الاستقلال، حين تحوّلت قيادة الدولة إلى نخبة إثنية وراثية ورثت الحكم لا عبر صناديق الاقتراع، بل عبر سلاسل المصاهرة، القرابة، والانتماء الجغرافي–الإثني الضيق، مما حوّل الدولة إلى ملك خاص
فمنذ لحظة الاستقلال (1956) كانت لجنة الدستور تُكتب خلف الأبواب المغلقة في الخرطوم، بعقول تنتمي جينيًا وثقافيًا لمنطقة النيليّين وشمال وسط السودان، وتم إقصاء القوى الهامشية من جنوبه وغربه وشرقه، رغم أنهم هم من دفعوا دماءً في الحرب العالمية الثانية في صفوف القوات السودانية التابعة لبريطانيا على غرار الثورة المهدية، هكذا تأسّست الجمهورية الأولى على قاعدة الاختزال الجغرافي والإثني، لا على عقد اجتماعي جامع
ثم جاء الجنرال عبود (1958) بانقلابه العسكري ليكرّس هذه المنظومة بصورة أكثر عسكرة، إذ لم يكن مجرد انقلاب عسكري، بل إعادة تموضع للطبقة الإثنية الحاكمة عبر زيّ عسكري، فقيادة الجيش نفسه كانت امتدادًا لذات الفئة الاجتماعية الحاكمة، ولم تُفتح أبواب الكلية الحربية إلا للمنحدرين من مناطق محددة، بينما حُرِم منها أبناء الهامش، وهذا ما أعاد إنتاج نفس القابضين على مفاصل القوة بشكل مُقنّن
ومع جعفر نميري (1969–1985) بدا وكأن النظام يتحول إيديولوجيًا نحو اليسار، لكن سرعان ما تكشّف أن القيادات الفاعلة في الدولة والحزب والدولة الأمنية ما زالت تنحدر من نفس الطبقة الإثنية، ولم تكن تجربة “التحوّل الاشتراكي” سوى واجهة لتجميل ذات البنية القديمة، حتى الطفرة التي قادها نميري في مؤسسات الدولة كانت محصورة في أبنائها، وتمّ توظيف الشعارات الاشتراكية لتصفية خصوم داخل ذات المركز،
ثم جاء نظام الإنقاذ (1989–2019)، الذي تسلّق الثورة الإسلامية ليحكم باسم الدين، لكنه لم يغيّر البنية الإثنية الحاكمة، بل منحها شرعية جديدة عبر “التكبير” و”التمكين” حتى الإسلام، في شعاراته وممارساته، تم تجييره لخدمة النخبة ذاتها التي انتقلت من عباءة اليسار إلى جلباب الإسلام السياسي، وظلّت مراكز السلطة من مجلس قيادة الثورة إلى مجلس الوزراء، من وزارة الدفاع إلى جهاز الأمن، تحت قبضتهم، رغم الحديث عن “المشروع الحضاري” و”العدالة الاجتماعية” بل إن ثورة ديسمبر (2018–2019) نفسها، والتي أُنجزت بأجساد الشابات والشباب من الأقاليم المهمّشة، لم تكن بمنأى عن هذا الاختطاف، إذ سرعان ما قفزت ذات النخبة لتعتلي المنصة باسم الثورة، مستبدلة أزياء “الإنقاذ” ببزّات مدنية حديثة، دون أن تمسّ جوهر السلطة وهيكلها الإثني، فترى من قادوا الثورة و تسلقُ أكتاف الثوار، في الإعلام ليسوا بالضرورة من صنعوها في الشارع، بل من أعيد تدويرهم في صالونات المركز
إذاً النظام لم يكن يومًا إيديولوجيًا، بل وراثيًا يتلوّن حسب الضرورة، اشتراكي، إسلامي، ديمقراطي، لكن في الجوهر، هو نظام بيولوجي–سياسي، توحّده المصلحة الإثنية، وتفرّقه التفاصيل السياسية.، ومن هنا تأتي خطورته، لا يسقط بسهولة، لأنه لا يظهر ككتلة واحدة، بل كأجنحة متصارعة ظاهرًا، متحدة جوهريًا، إن مقاومة هذا النظام تقتضي قراءة الجغرافيا السياسية لا عبر الخرائط، بل عبر الأنساب والتاريخ الثقافي لطبقة أوليغارشية ورثت البلاد واستأجرت الشعب، ولا خلاص من قبضتها إلا بإعادة تعريف الدولة، لا على أسس العروبة أو الدين أو الدم، بل على أساس المواطنة الحقيقية، وإعادة توزيع السلطة والثروة بلا اعتبارات إثنية أو جينية..
إرسال التعليق