سارة السعيد تكتب : العودة التركية إلى سواكن: قراءة استراتيجية في صراع الموانئ على البحر الأحمر
تأتي التحركات التركية الأخيرة في جزيرة سواكن في لحظة دقيقة إقليمياً، تُعيد فيها أنقرة تموضعها بهدوء في منطقة البحر الأحمر، مستفيدة من الانشغال الدولي بالحرب في السودان، والتنافس الإقليمي المكثف على الموانئ الاستراتيجية الممتدة من بورتسودان إلى جيبوتي. وعلى الرغم من غياب الإعلانات الرسمية، فإن مؤشرات الواقع الميداني والتقارير المفتوحة المصدر (OSINT) تشير إلى عملية تثبيت نفوذ ناعمة، تستهدف استعادة موطئ قدم رمزي واستراتيجي في شرق السودان، في وقت يعاد فيه ترسيم النفوذ البحري على امتداد الإقليم.
سواكن ليست مجرد جزيرة صغيرة على الساحل السوداني، بل تشكل عقدة رمزية واستراتيجية في مشروع النفوذ التركي على امتداد القرن الأفريقي. ففي عام 2017، وقّعت الحكومة السودانية السابقة مذكرة تفاهم مع أنقرة لإعادة تأهيل الجزيرة، وسط تقارير أكدت آنذاك نية استخدام الموقع كمركز خدمات لوجستية ضمن استراتيجية “التمدد العثماني الناعم”. ومع سقوط نظام البشير، جُمّدت الخطة رسمياً، لكن لم تُلغَ فعلياً، وبقيت الجزيرة خارج التغطية الإعلامية دون أن تُسحب من الحسابات الجيوسياسية.
اليوم، تشير الوقائع إلى عودة تدريجية للوجود التركي في سواكن عبر أدوات غير عسكرية: زيارات لممثلي وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، تحركات لمنظمات إغاثية مثل IHH، أعمال ترميم لمبانٍ عثمانية، واستئناف محدود لمشاريع الوقف الإسلامي. وقد رُصدت خلال النصف الأول من 2025 زيارات تقنية لفرق هندسية تركية، أكّد بعضها –وفق مصادر استخباراتية فرنسية– إجراء تقييمات للبنية التحتية الساحلية في محيط الجزيرة.
التحركات التركية لا تأتي بمعزل عن السياق الإقليمي الأوسع. تتنافس قوى مثل الإمارات، مصر، والسعودية على النفوذ في الموانئ المطلة على البحر الأحمر، وتحديداً في السودان والصومال. وبينما تسعى أبوظبي لتوسيع سيطرتها عبر عقود تشغيل الموانئ (كما في بربرة وعدن)، وتعمل القاهرة على ترسيخ حضورها العسكري–الاستخباراتي في بورتسودان، تستثمر أنقرة في أدوات ناعمة توفّر مرونة استراتيجية وتجنّب الصدام المباشر.
الحرب السودانية الجارية منذ أبريل 2023 فتحت فراغاً سياسياً واسعاً على السواحل، سمح لتركيا بإعادة التموضع بتكلفة منخفضة نسبياً. وفي حين انشغلت الدول الغربية باحتواء تداعيات النزاع وموجات الهجرة، رأت أنقرة فرصة لتعزيز وجودها دون إثارة الضجيج. وقد أشار تقرير صادر عن مركز SETA التركي إلى أن استثمار الرمزية العثمانية في سواكن يمثل نموذجًا لترسيخ الوجود التركي دون الحاجة إلى منشآت عسكرية تقليدية.
الجزيرة، بتاريخها الديني والسياسي، تتيح لأنقرة الجمع بين البعد الرمزي والوظيفي. فهي نقطة قريبة من الممرات البحرية الدولية، وبوابة بديلة عن جيبوتي وبربرة، ويمكن استخدامها مستقبلاً كمركز دعم لوجستي للبعثات التركية في أفريقيا الشرقية. كما أن اعتماد تركيا على برامج الترميم والوقف والمشاريع الثقافية يعطيها واجهة مقبولة في بيئة سياسية تعاني من حساسية مفرطة تجاه الحضور العسكري المباشر.
تدرك تركيا أنها تتعامل مع بيئة متداخلة المصالح. أي تحرك صريح في سواكن قد يُفسَّر كاستفزاز من قبل الإمارات أو مصر، أو حتى من قبل السعودية التي تراقب الوضع البحري في البحر الأحمر بدقة متزايدة. لذلك، تُبنى العودة التركية على “استراتيجية التسلل الوظيفي”: تعزيز الأثر دون الحاجة إلى إعلان الوجود. وهذا ما يفسر غياب البيانات الرسمية وتكثف العمل الميداني غير المعلن.
المعادلة في سواكن تتجاوز بعدها المحلي. فمع تصاعد الاهتمام الدولي بالبحر الأحمر كممر استراتيجي للطاقة والبضائع، وازدياد التوتر الأمريكي–الإيراني في الخليج، باتت سواكن نقطة تقاطع لحسابات أمنية دولية. وقد نُقل عن دبلوماسيين أوروبيين في تقرير مشترك لمركز International Crisis Group، أن عودة تركيا إلى الجزيرة تُراقَب عن كثب من قبل باريس وواشنطن، في ظل القلق من تحوّلها إلى منصة نفوذ تركي دائم مشابهة لنموذج الصومال.
أما داخلياً، فإنّ استمرار الارتباك في مركز القرار السوداني، وانقسام الأولويات بين معسكري الصراع، يسمح لأنقرة بمواصلة حركتها في سواكن دون عراقيل مؤسسية حقيقية. فبينما تركّز قيادة الجيش على الملفات الأمنية والعسكرية، وتُعاني قوى الدعم السريع من ضغوط ميدانية وخارجية، تُمرّر التحركات التركية كأنها “مبادرات تراثية” لا تستدعي المواجهة.
لكن التحدي الحقيقي لأنقرة لا يتمثل في مجرد تثبيت الحضور، بل في ضمان وظيفية هذا الحضور عند الحاجة. فبدون قدرة على تحويل سواكن إلى نقطة إسناد لوجستي أو استخباراتي فعلي، سيبقى الحضور التركي رمزياً وغير مؤثر. ولهذا، من المتوقع أن تتجه تركيا خلال الفترة المقبلة إلى تعميق العلاقة مع كيانات محلية في شرق السودان، لضمان أرضية اجتماعية تحمي مشروعها الرمزي من أي تحولات مفاجئة.
العودة التركية إلى سواكن ليست إعادة إحياء لذاكرة عثمانية فحسب، بل جزء من مشروع أوسع لإعادة موضعة أنقرة في معادلة القرن الأفريقي. وإذا نجحت أنقرة في تثبيت توازنها الرمزي والوظيفي في الجزيرة، فقد نشهد خلال السنوات المقبلة تحولاً تدريجياً في طبيعة النفوذ الإقليمي في البحر الأحمر، يكون فيه “الرمز” أداة نفوذ لا تقل فعالية عن القاعدة العسكرية.
تحت الرماد يبقى السؤال المفتوح: هل تملك أنقرة القدرة على مواصلة اللعب تحت الرادار، دون أن تُستدرج إلى مواجهة مبكرة مع شركاء البحر؟ وإذا اندفعت بعض القوى الإقليمية لاحتواء التمدد التركي، فهل تتحول سواكن إلى نقطة اشتباك مكتوم، أم تبقى حافة صامتة في لعبة النفوذ الكبرى؟
إرسال التعليق