د.جودات الشريف يكتب :ما بعد التأسيس: حين تكتمل الرؤية وتبدأ الدولة - صوت الوحدة

د.جودات الشريف يكتب :ما بعد التأسيس: حين تكتمل الرؤية وتبدأ الدولة

في لحظة تاريخية فارقة من عمر الوطن، وبعد مسار طويل من المقالات التي شكّلت مداميك الوعي التأسيسي، نصل إلى محطة الختام، لا بوصفها نهاية المطاف، لكنها بداية لأفق وعهد جديد نثق بإمكانية إشراقه… أفق الدولة التي طالما حلمنا بها إستحقاقاً و وعداً و تمني.

ففي كل سطر كتبناه من “الميثاق إلى الدولة”، ومن “لحظة التأسيس” إلى “الحكومة الرشيدة”، كنا نضع لبنات رؤية جماعية لما يجب أن يكون عليه السودان القادم، السودان الذي لا يُدار بعقلية الغلبة، ولا يُختزل في جغرافيا بعينها، ولا يُحتكر من نخبة قليلة العدد.

لقد كانت حكومة التأسيس — كما بسطناها في المقال السابق — أداة انتقال ورافعة نحو مشروع أوسع و أنفع للناس: مشروع الدولة، ليس كهيكل إداري فحسب، لكنه عقد اجتماعي ومصير مشترك.

واليوم، ونحن نكتب هذه السطور، نريد أن نُطل من هذا المقال الختامي على الملامح الكبرى للدولة التي نناضل من أجلها و نعيش حلمها، دولة ليست على مقاس تفكير النخب الفاشلة، بل على مقاس أحلام الشعوب السودانية.

الحكومة تُعطى، تُعيّن، تُقيّم وتُستبدل، أما الدولة فثابت يُبنى، يُؤسس، ويُحمى بالإرادة الجمعية لأمته. فالدولة ليست ما يُرى في الخرائط، لكنها ما يُعاش في الحقوق و تثبته كرامة الشعب و يبرهنه تطبيق القانون.

ولهذا، فإن المعركة الكبرى لم تكن يومًا حول من يحكم، بل كيف نحكم ولأجل من. لقد دلّتنا التجارب، وأكدت علينا العلوم السياسية، أن بناء الدولة ليس مجرد انتقال شكلي مظهري، بل تحوّل جذري في الفهم والإدارة والقيم.

وكما يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر: “الدولة هي الكيان الوحيد الذي يحتكر الاستخدام المشروع للقوة في مجتمع ما”، إلا أن  هذا الاحتكار لا يُبرَّر إلا بخدمة الجميع، لا لخدمة نخبة أو فئة بعينها.

وهنا يحسن بنا أن نستدعي إلى الزاكرة المثل الكردفاني العميق: “مُداعاة الملاح”، الذي يرمز إلى ثقافة المحاباة والمحسوبية في إتاحة الفرص، وما يسببه ذلك من تشويه لقيم العدالة والمواطنة.

وهو تعبير شعبي يلخص بدقة الأزمة السودانية المزمنة: دولة تُدار بالقرابة و المصاهرة والمحسوبية والمحاباة والانتماء الضيق، لا بالكفاءة والاستحقاق و الجدارة.

نحن لا نرسم خيالًا، بل نستجمع ملامح الدولة من معاناة الناس، من طين القرى من خيام البادية، من المدن المتريفة المتعبة، من أنين النازحين، ومن حكمة الكبار و وعي الشباب الذين هتفوا للعدالة، للكرامة، للمساواة.

نريد دولة لا تستنسخ مظالم الماضي، ولا تكرّس ثقافة الامتيازات باسم الجغرافيا، أو التاريخ، أو وشائج الدم، أو القُرب من “المُلاح”. نريدها دولة يُعامل فيها ابن نيالا كابن الخرطوم، ومواطن حلفا كمواطن الكرمك – والمرأة كالرجل، والمزارع كالوزير أمام القانون.

لا مكان فيها لثقافة “مُداعاة الملاح” التي تختصر الوطن في جماعة أقلية بحساب التنوع المذهل في السودان، وتوزّع الفرص بالقرابة والترضيات لا بالكفاءة والاستحقاق. نريدها دولة تَعدل بين أهل السودان بلا مجاملة لأحد – وتَخدم الجميع بمعيار العدل بعيداً عن المحاباة.

نريدها دولة لا يُلغي مزاج الحاكم فيها حق المواطن، ولا يقرر المسؤول مصير قرية أو بادية أو حي سكني في لحظة غضب أو صفقة.

القانون هو الذي يجب أن يكون  السيد الحاكم، والمؤسسات لا لا يجب أن تُعلّق أو تُدار بقرارات فوقية أو أوامر من هاتف مسئول.

هذه الدولة التي نريد ينبغي أن تُبنى على الثقة والوضوح لا على الولاء والغموض.

ونريدها لا مركزية ليست مجرد توزيع إداري للخرائط، بل فلسفة حكم تمنح لكل إقليم أو ولاية حقه/حقها في القرار والمصير، بما يُنهي عهد المركز المتغطرس الذي كان يرى في الأطراف مجرد خزان بشري أو حطب لإيقاد الحروب العبثية.

نريدها لا مركزية تزرع العدالة بعيداً عن تفرّيخ الفوضى إعمالاً لنظرية (فرق تسد).

ولا خلاص من الماضي دون مساءلة، ولا تصالح بلا اعتراف.

هذه الدولة نطمح في أن تعالج الجروح بصدق، وتفتح أرشيف الدم والخراب، ليس لتنتقم، لكن لتؤسس مستقبلًا لا يُبنى على النسيان.

كما قال المفكر السياسي جون رولز: “العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما أن الحقيقة هي للأنظمة الفكرية”.

نحن نريد سودانًا لا يذيب تنوعه في قوالب جاهزة، ولا يُنتج وحدة زائفة قائمة على الإكراه والقهر والقسر، بل نبني وطنًا يحتفي باختلافه و ثراء تنوعه، يرى في لغاته وثقافاته وسحناته ثروة بناء لا تهديد وجود كما تتخيلها النخب المركزية موتورة التفكير.

وكما قال الزعيم التنزاني جوليوس نيريري: “الوحدة لا تعني التشابه، بل تعني قبول التعدد بروح واحدة”.

في عالمنا، لا توجد وصفة واحدة لبناء الدولة، لكن توجد دروس وتجارب تضيء لنا الطريق.

رواندا نهضت من جحيم الإبادة على أعمدة المحاسبة، والمصالحة، والإنتاج، حتى باتت من أنظف وأكثر دول إفريقيا تنظيمًا و نمواً إقتصادياً.

وأوروغواي قادها رئيس فقير، خوسيه موخيكا، نحو دولة كريمة لا تُقاس بالبذخ، بل بالخدمة العامة والصدق الأخلاقي.

وتشيلي صنعت دستورها من ميادين الحراك، بأصوات الشباب والنساء وكافة شرائح مجتمعها، لا من غرف العسكر او النخب المتملقة.

وتيمور الشرقية استعادت دولتها من ركام الاحتلال، عبر نضال طويل مثقل بالألم والإصرار.

والهند، بعد الاستقلال، أقامت تجربة فريدة لدولة علمانية ديمقراطية تسع أكثر من مليار، بتنوع مذهل في الأديان واللغات والثقافات.

العلوم لا تصنع الدول وحدها، لكنها تقول لنا بوضوح: لا توجد دولة راشدة تُبنى على العشوائية، ولا على عقلية (المرازقة اليومية).

الحكومات تأتي و تذهب، لكن الأنظمة السياسية تترك أثرًا عميقًا، ولهذا فإن بناء الدولة يحتاج إلى قواعد راسخة تُحترم، لا تُكسر عند أول أزمة.

أن تكون القواعد جزءًا من القرار لا أن تُستدعى للمشهد عند الحاجة فقط، فالديمقراطية تبدأ حين يُصبح للناس صوت، لكنها تنضج حين يصبح لذلك الصوت أثر.

والدولة التي تُخفي قراراتها ومصيرها خلف الجدران ليست دولة، بل قفص سلطوي معتم.

حين نعرف من يقرر، ولماذا، وكيف، حين يُكسر احتكار المعلومة العامة، وتُصبح الدولة مرئية لمواطنيها، يبدأ المواطن في الشعور بأنه شريك أصيل وليس مجرد تابع مأمور.

فالغموض هو ظل الاستبداد، والوضوح رفيق الثقة.

أما الاستدامة، فليست مجرد كلمة في وثيقة، بل ضمان ألا ينهار كل شيء حين يتغير الوزير أو تتبدل الحكومة.

السياسات لا توضع لإرضاء اللحظة، بل لتخدم الأجيال. الدولة الجديدة يجب أن تكون كالنهر الجاري، لا كالسد الموسمي المؤقت.

وكما قال ماكس فيبر: “السياسة ليست انفعالًا لحظيًا، بل مسؤولية تستمر”.

والعدالة، ليست ترفًا أخلاقيًا، لكنها ضرورة وجودية، فلا نريد دولة تُدار بالترضيات بين مكونات مؤسسيها، بل تُبنى على قاعدة العدالة للجميع.

وكما يقول علماء الأنثروبولوجيا السياسية: “حين تنهار العدالة، تبدأ القبيلة بالزحف نحو مركز الدولة”.

إننا نريد سودانًا لا يقف الناس فيه طوابير لأجل الخبز والوقود والتعليم، ولا يموت فيه الأطفال من الإسهال والكوليرا وسوء التغذية، ولا يُقتل فيه الحلم في طابور الفساد أو سطوة العسكر و إستبدادهم أو تواطؤ النخب  المتآمرة كما ظل يحدث لأكثر من سبعين عاماً.

نريده سودانًا لا تُديره النخب، بل تُشركه الجماهير. لا تكتبه الأقلام فقط، بل تحرسه الأقدام التي مشت في دروب النضال قتالاً بالسنان والبنان واللسان، والأيدي التي زرعت في الحقول، والقلوب التي نزفت في معسكرات النزوح و اللجؤ.

بهذا المقال نضع آخر حجر في سلسلة فكرية قدمناها للقارئ من ست مقالات – نريد لها أن تكون مقدمة لوعي جديد لا مجرد نصوص.

لقد كتبنا من صدق القلب، وانفتاح العقل، وبضمير الوطن كله.

نكتب خاتمة التأسيس لا لننهي شيئًا، بل لنعلن أن الرؤية قد اكتملت من وجهة نظرنا… وحان وقت الدولة.

فالدولة التي نحلم بها، لا تُهدى، بل تُنتزع، ولا تُبنى بالتمنيات فقط، بل بالإرادة الصادقة والعمل الدوؤب.

وها نحن نبدأ الطريق.

إرسال التعليق

لقد فاتك