ياسمين آدم المصري تكتب :من مدرسة مهيرة إلى شارع عبيد ختم: كيف جزّرت الدولة السودانية للمركزية في الوعي والمعنى؟ - صوت الوحدة

ياسمين آدم المصري تكتب :من مدرسة مهيرة إلى شارع عبيد ختم: كيف جزّرت الدولة السودانية للمركزية في الوعي والمعنى؟

في أطراف السودان، في مدينة بعيدة عن الخرطوم، كنتُ أذهب إلى مدرسة تحمل اسم “مهيرة الأساسية”. كنت طفلة لا أدرك رمزية الاسم، لكنه ظل يثير فيّ تساؤلًا: من هي مهيرة؟ ولماذا سُمّيت مدرستنا باسمها؟
هذا الفضول، الذي لم تجِب عليه المناهج، دفعني لاحقًا للبحث في سيرة هذه المرأة السودانية.

ثم أدركت أن تسمية المدرسة، كما أسماء الشوارع والمنشآت، لم تكن فعلًا عفويًا، بل جزءًا من مشروع متكامل لفرض مركزية معرفية وثقافية تُعيد إنتاج مفاهيم السلطة والتاريخ والهوية كما تشتهيها الدولة المركزية.

في الأنظمة التي تستند إلى مركز قوي يعيد تشكيل الأشياء من خلال الذاكرة سياسيًا وجغرافيًا، تصبح إدارة “الذاكرة الجمعية” أداة خطيرة. فالأمر لا يقتصر على احتكار القرار السياسي، بل يتعدّاه إلى إعادة كتابة التاريخ، وترتيب رموزه، وتحديد من يستحق الظهور في المناهج، ومن يُنسى عمدًا.

لقد رأينا كيف تم استبعاد الرموز المحلية، أو تقديمهم بصورة باهتة أو مشوّهة، بينما احتُكر الفضاء الرمزي من قبل رموز السلطة المركزية، سواء كانوا سلاطين، رؤساء، قادة دينيين، أو زعماء من المركز الجغرافي والسياسي للدولة.

في المدارس، نتعلم عن “الثورات” و”الزعماء” و”الأبطال” من خلال عدسة واحدة فقط: عدسة الدولة. تُقدَّم المفاهيم مثل الوطنية، القومية، التاريخ، وحتى الهوية السودانية، من منظور يُهمّش التنوع ويجعل من المركز هو “الطبيعي”، وما سواه “هامش” أو استثناء.
هل تذكرون كتاب التاريخ في الصف الثامن؟ كم من الصفحات خُصّصت مثلًا للثورة المهدية؟ وكم منها تحدّث عن ممالك الفونج، أو تاريخ جبال النوبة، أو دارفور قبل الاستعمار؟

في العاصمة، تسمع أسماء مثل “شارع عبيد ختم”، “شارع القصر”، “شارع القيادة”، “شارع النيل”، لكنها نادرًا ما تحمل أسماء من الهامش، أو تكرّم نساء من هناك. بل حتى في الولايات، تُفرض هذه الأسماء وكأنها إعلان عن الهيمنة الرمزية والسياسية. الشارع، المدرسة، المستشفى، وحتى ميدان الكرة، كلها تُصبح أدوات لصياغة هوية وطنية مزيفة، تتجاهل تنوّع البلاد وتعقيداتها، وتُنتج ذاكرة منقوصة.

حين يُمحى التاريخ المحلي وتُقدَّم رواية بديلة في المناهج، يشعر أبناء المناطق البعيدة عن المركز أن هذا التاريخ لا يمثلهم. فيكبرون وهم يرون أنفسهم كأنهم ضيوف على سردية وطنية لا تتسع لهم. هذا يُولّد الإحساس بالتهميش، الغضب، والانفصال، وهي عوامل تغذّي النزاعات وتُضعف فكرة الانتماء الوطني.

يمكننا إعادة كتابة المناهج التعليمية بصورة تشاركية، تُكرّم جميع أقاليم السودان، وتُعيد الاعتبار للتاريخ المحلي، وللبطولات المجتمعية والنسوية، مثل بطولات مهيرة وأُخريات لا نعرف أسماءهن.
كما يمكن إعادة تسمية المدارس والشوارع بأسماء تعبّر عن تنوّعنا، وتُشرك المجتمعات المحلية في اختيار الرموز التي تُعبّر عنها.

هذا ليس خطاب تظلُّم، ولا بكائية على الهامش، بل محاولة لفتح مساحة للتأمل والفهم؛ لنقول إن ما يحدث ليس مجرد إهمال عابر، بل خلل بنيوي ومقصود في كيفية بناء الدولة السودانية وتوزيع رموزها ومعانيها.
نحن لا نطلب استجداءً للاعتراف، بل نسعى لتفكيك هذا الاختلال، لأن أي مشروع لبناء وطن حقيقي لا يمكن أن يكتمل دون إصلاح جذري في الذاكرة، والرموز، والمعرفة التي تَشكّلت عبر أدوات السلطة، لا عبر إرادة الشعوب.

لقد كانت مدرستي، باسم “مهيرة”، بوابة صغيرة لفهم منظومة كاملة من السيطرة على المعنى، تبدأ من المناهج، وتمتد إلى اللافتات، وتنتهي في الوجدان.
وما أكدته لنا الحروب، وأدركناه بالوعي المستمر، أن لا شيء يضيع؛ الذاكرة ستجد طريقها للانبعاث، حتى لو من ثُقب الإبرة

إرسال التعليق

لقد فاتك