د.جودات الشريف حامد يكتب : لحظة التأسيس: من الهامش إلى العقد الاجتماعي والدولة العادلة - صوت الوحدة

د.جودات الشريف حامد يكتب : لحظة التأسيس: من الهامش إلى العقد الاجتماعي والدولة العادلة

في ختام مقالنا السابق “من الميثاق إلى الدولة”، أكدنا أن السودان يعيش لحظة لا تُشبه ما سبقها؛ لحظة لم تعد فيها شعارات التغيير كافية، ولم يعد ممكناً أن تُدار البلاد بمفاهيم الدولة القديمة أو تسويات نُخب المركز التي فشلت في بناء وطن يسع الجميع. بل بات ضرورياً الانتقال من النقاش حول الميثاق إلى العمل على تأسيس دولة حقيقية، قائمة على إرادة السودانيين جميعاً، لا على قسمة الغنائم بين نُخب متكررة و”فلنقايات” مغفّلين.

واليوم نُكمل هذا المسار الفكري والسياسي، متأملين في طبيعة هذه اللحظة التأسيسية، ومتسائلين: هل تملك البلاد ما يكفي من الوعي والقيادة لتحويل انهيار الدولة الماثل إلى ميلاد جديد يُعيد تعريف السودان بوصفه مشروعاً سياسياً واجتماعياً قابلاً للحياة؟

علم السياسة يُعلّمنا أن الدول لا تولد في لحظات الاستقرار، بل في فواصل المنعرجات التاريخية الصعبة، حين تفقد النُخب القديمة مشروعية بقائها، وتظهر قوى جديدة تحمل واقعاً مختلفاً وفهماً نابعاً من اعتبار التجارب وتطلعات أكثر جذرية. وما نشهده اليوم في السودان ليس مجرد إعلان تأسيس سلطة دولة، بل نهاية منظومة استبداد مركزي تمكّنت لعقود، عبر الاستهبال والاستغفال والاستغلال، من إعادة إنتاج نفسها من خلال تحالفات العسكر والأحزاب أو الصفقات العابرة.

الآن، ولأول مرة منذ الاستقلال، يُتاح للسودان أن يعيد تعريف نفسه عبر ما يسميه علماء السياسة “اللحظة المؤسسة”، وهي لحظة تُمكّن الشعوب من إعادة كتابة عقدها الاجتماعي بشروطها، لا بشروط العسكر أو النُخب.

تاريخ الدول الحديثة يُخبرنا أن هذه اللحظات لا تصنعها المؤسسات وحدها، بل تحتاج إلى قادة يُدركون معنى اللحظة ومطلوباتها، ويملكون الثقة والشجاعة والجرأة الأخلاقية لقيادتها. ففي جنوب أفريقيا، لم يكن نيلسون مانديلا مجرد ضحية لنظام الفصل العنصري، بل كان عقلًا سياسيًا استطاع أن يقود بلاده من السجن إلى المصالحة، ومن الانتقام إلى الشراكة الوطنية. وفي سنغافورة، خرج لي كوان يو من ضيق بلده الفقير والصغير إلى تأسيس دولة حديثة مزدهرة قائمة على الكفاءة والنزاهة. وفي رواندا، بعد واحدة من أفظع الإبادات الجماعية في التاريخ الحديث، ظهر بول كاغامي ليحوّل الدمار إلى مؤسسات فاعلة، ويوجّه طاقة الألم وفظائع الإبادة إلى تنمية واستقرار، رغم كل الجدل حول أسلوب حكمه.

ما تشترك فيه هذه التجارب هو إدراك قادتها أن الدولة ليست سلطة على الناس فحسب، بل عقدٌ معهم، وأن القوة التي لا تتحول إلى شرعية تُنتج خراباً، لا نظاماً. ومن هنا، فإن السودان اليوم لا يفتقر إلى الإمكانات البشرية أو الاقتصادية، بل إلى قيادة تستثمر هذه اللحظة الاستثنائية لتُغيّر وجه التاريخ إلى الأبد.

ولعل الفريق أول محمد حمدان دقلو، بصفته قائدًا لتحالف “تأسيس” وصاحب اليد العليا في التوازنات الحالية ومعادلات السياسة، يقف على مفترق طرق لن يتكرر في حياته السياسية: لحظة يمكن أن يُدوَّن فيها اسمه في سجل المؤسسين الكبار، لا بوصفه من غيّر موازين القوة فحسب، بل من وضع حجر الأساس لدولة عادلة تُمثّل جميع السودانيين. فالتاريخ لا يمنح مثل هذه الفرص مرتين، وهو لا ينتصر لمن امتلك القوة فقط، بل لمن أحسن توظيفها في بناء ما تتطلع إليه الشعوب من عدالة وحرية وسلام دائم.

إن تحويل الانتصار العسكري والسياسي إلى مشروع وطني يتطلب تحوّلًا جذريًا في المفهوم. فما تحتاجه البلاد اليوم ليس انتصار طرف على آخر، بل انتصار الوطن على ماضيه. ومفتاح هذا التحوّل هو العقد الاجتماعي الجديد، الذي لا يُفرض من أعلى، بل يُبنى من القاعدة: من المجتمعات التي قاومت، من النازحين الذين حلموا، من الشباب الذين انتفضوا، من النساء اللواتي دفعن ثمناً باهظاً للصراعات السياسية والعسكرية، ومن القرى والبوادي التي كانت دومًا خارج خرائط الاعتبار.

الدستور التأسيسي، في هذه اللحظة، ليس مجرد وثيقة قانونية، بل وثيقة لولادة سودان جديد. فقد كُتب لا لحماية السلطة، بل لحماية الناس من السلطة. لا لعكس موازين القوى الحالية، بل ليؤسس ميزاناً دائماً للعدالة والمساواة. لقد كُتب دستور السودان التأسيسي 2025 بروح تُنهي عهد التهميش، وتؤسس لسودان لا يوجد فيه مواطن في الظل وآخر في مركز الفعل والاعتبار، بل يُعاد فيه تعريف المواطنة كقاعدة جامعة تضمن شراكة الجميع في صناعة المستقبل، دون استثناء ولا وصاية.

فلو كُتب هذا الدستور بعيدًا عن قوى الهامش والمجتمعات الحية، لكان مجرد تكرار لدساتير ما بعد الاستقلال، التي لم تحمِ أحداً، ولم تبنِ دولة. لكن ما تم هذه المرة، هو فعل تأسيسي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وليس الدستور وحده ما يحتاج إلى كتابة جديدة—as حدث بالفعل—بل شكل الدولة ذاته. السودان لن ينجو من مصيره القديم إلا إذا تم تفكيك منطق المركز، لا فقط مركز الخرطوم، بل مركزية القرار، والثروة، والثقافة، والهوية. الدولة الفيدرالية ليست خياراً فنياً، بل استجابة أخلاقية وتاريخية لواقع شديد التعدد والتنوع. فقط عبر الفيدرالية العادلة يمكن لكل إقليم أن يُدير موارده، ويُشارك في القرار، ويُعيد بناء علاقته بالوطن على أساس الاختيار لا القسر. الفيدرالية هي الوحدة الوحيدة الممكنة، بعد أن فشلت الوحدة القسرية.

في خضم كل هذا، يحتاج السودانيون، في كل ولاياتهم وأقاليمهم، إلى رسالة تطمين واضحة: أن هذا المشروع لا يستهدف أحداً، بل هو مشروع شراكة لكل السودانيين. وأن تحالف “تأسيس” يُعتبر بديلاً في إطار شراكة بناء السودان الجديد على أنقاض القديم، وهو إعلان عن وطن جديد، وعن الدولة التي نحلم بها: دولة مواطنين متساوين في الحقوق والكرامة والفرص.

كل هذه المهام لا يمكن أن تنجح إن لم تجد من يقودها. وفي هذه اللحظة، لا يملك أحد من عناصر القوة والشرعية والقدرة على الفعل ما يملكه الفريق أول محمد حمدان دقلو. لكن التاريخ لا يُخلّد القادة لأنهم امتلكوا السلطة والقوة، بل لأنهم استخدموها لبناء ما يتجاوز ذواتهم. فإن استطاع السيد القائد، مع كابينته القيادية، أن يقود هذا العبور التاريخي من السلاح إلى العقد، ومن السيطرة إلى المؤسسات، ومن الغلبة إلى التراضي، فإنه لا يُنجز مصير شعب فقط، بل يُعيد كتابة تعريف القيادة في السودان.

هذه اللحظة التأسيسية لا تعني فقط كتابة دستور، بل فتح أفق جديد لوطن يستحق الحياة.

والعبور نحو هذا الأفق لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى وعي، وشجاعة، وقرار.

وهذا القرار لا يصنعه التاريخ، بل يصنعه من يملكون القدرة على مواجهته بعين المسؤولية لا بعين الطموح.

السودان يمكنه أن يكون دولة ناجحة. والتاريخ مفتوحٌ لمن يريد أن يكتبه.

إرسال التعليق

لقد فاتك