الطيب الحاج يكتب : نقد رواي مسيح دارفور : الرواية ، اللغة و المثقف حين يصبح التأويل سلاحاً
كل فهمٍ هو تأويل، وكل تأويلٍ هو انحياز، وكل انحيازٍ يعبر من اللغة لا من البراءة. ليست هناك حربٌ أهلية إلا وكانت مسبوقة بلغةٍ ملوثة، بنبوءةٍ مزعومة، بروايةٍ مشحونة، بفلسفةٍ مؤدلجة، وبدعوى شيخ يدّعي احتكار الحقيقة المطلقة. فاللغة ليست مرآة، بل مشرط. ليست حيادية، بل تنحاز. وكل ما يمر عبر اللغة لا يمكن أن يتجرد من مسؤولية السلوك الذي يُحتمل أن يولده، سواء بالتحريض او التبرير.
إن كل مجزرة تبدأ بسرد، وكل إبادة تُمهد بخطاب، وكل عنف يُستدعى من تحت الرماد بلغةٍ تُزيّف الوعي وتُهندس مضامين المعانى. لهذا فإن الكاتب حين يكتب عن الدم، يصبح إما شاهدًا مسؤولًا، أو محرّضًا مموّهًا. فليس كل من كتب عن الحرب يسعى للسلام، وليس كل من سرد المأساة يسعى إلى العدالة. كم من روائي أراد أن يداوي، فإذا به يجرّح، وكم من كاتب توهم أنه يقدّم الحل، فصار هو المشكلة.
يكتب الأستاذ عبد العزيز بركة ساكن في تعليق على صفحتي الشخصية يقول: مهمة الرواية عكس مهمة الفيلسوف أو الباحث الاجتماعي، فهي لا تجيب، بل تنبش، تفتح الجرح حتى يصير بركة من الدماء، وعلى القارئ أن يبحث أو لا يبحث. فالروائي ليس مصلحًا اجتماعيًا أو فيلسوفًا. « انتهى الإقتباس»
هذا الطرح، وإن بدا في ظاهره تحريرًا للرواية من قيود التوجيه المباشر، إلا أنه يخفي إشكالية عميقة تتعلق بطبيعة الدور الأخلاقي للكاتب في مجتمع مُمزق بالهويات، والتاريخ، والدم. فالرواية وإن لم تكن ملزمة بتقديم خارطة طريق، إلا أنها لا تعيش في فراغ، ولا تكتب في عزلة عن التاريخ والوقائع، ولا تُقرأ دون آثار. فالرواية تفتح نعم لكن هل تترك الجرح ينزف؟ هل يكفي أن تضيء دون أن تُبصر، أن تُظهر دون أن تُبصر؟ أن تكشف دون أن تحاسب؟ أن تُعرّي دون أن تداوي؟ فهنا ستصبح الكتابة نزيفًا بلا ضمير، و ما المجاز فيها إلا مجاذر مؤجلة.
لم يبدأ استعمار القارة الإفريقية بإطلاق النار، بل بدأت بالكلمة، وبالرواية، وبالعلم المؤدلج، وبالمثقف الذي يُسوّغ الهيمنة والسيطرة. فكما تُعلن اتفاقية برلين نقطة الانطلاق الفعلية للاستعمار، لم يكن بندُها الأول دمًا ولا مدفعًا، بل لغةُ التفوق المزعوم، ونظرياتُ التطور الاجتماعية التي زعمت أن الكائن الإفريقي لا يملك القدرة على حكم نفسه، فلا بد من تسخير العقل الغربي لقيادته. كما تُشكل رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد نموذجًا صارخًا في هذه المنظومة الإيديولوجية. إذ رسمت الرواية صورةً دونية للأفريقي، جاعلة منه وحشًا وشبحًا في غابة مظلمة، معززة بذلك الصور النمطية العنصرية التي استُخدمت كأداة دعائية لتبرير القهر والاستغلال. فهنا تتحول الكلمة إلى سلاح، والرواية إلى جدار حديدي يحجب الحقيقة ويُشوه معاني الأنسنة.
فهل من منطق يجعل الروائي بريئًا بحجة أنه ليس من مسؤوليته الإجابة على كل الأسئلة، كما قال الأستاذ؟ الواقع أن الروائي مسؤول أمام قرائه وأمام ضميره عن كل ما يكتبه، فهو ليس مجرد ناقل سردي محايد، بل هو صانع للمعنى وصاحب قرار إبداعي يتحمل تبعاته. لا يمكن للمثقف أو الروائي أن يتنصل من مسؤولية القول، فالكلمة ليست بريئة، والرواية ليست لعبة، بل هي فعل له تأثيرات حقيقية قد تبني او تهدم، قد تضيء أو تعتم، قد توحد أو تفرق. ومن هنا تأتي أهمية وعي الروائي بأبعاد ما يكتبه للقارئ، و إلتزاماته الأخلاقية تجاه الرسائل التي يطلقها في عالم القراءة و التي بدورها ستتحول لسلوكيات تعاملية على قيد النشاط.
في موازاة لذلك، يظهر رواية مسيح دارفور بمضمون كتابي لا يقل خطورة عن بقية الروايات التي كرست للكراهية و أصلت لأيديولوجية الأصالة، و بررت لتعابير التمييز بين الأصيل و الدخيل. من علم يُعلن التفوق العنصري، إلى قصص روائية تبرر نزع الهوية من مجموعات سودانية، و فلسفة تنمي لثقافة الأصالة الأرضية والإقصاء الممنهج. ولكن يجب أن نؤكد على أن الروائي المسؤول لا بد أن يتحلى بوعي عالٍ وأخلاق رصينة، لا تسمح له بتبرير الكراهية، ولا الإقصاء، ولا لترويج أي خطاب يحط من قيمة الإنسان مهما كانت انتماءاته. فالفن الأدبي في أسمى تجلياته، مسؤول عن الإضاءة على الحقيقة، وعن بناء جسور الفهم، لا عن خلق حواجز البغضاء والتمييز و القبلنة. هنا تتجلى مسؤولية المثقف والروائي كضوء في الظلام، لا كجزء منه، كي لا تتحول الكلمة إلى قاتلٍ صامت.
فهذا المقال النقدي لا ينطلق في مضمونه من موقع المثقف الطائفي أو العرقي أو الهوياتي، ذلك الذي يرى العالم من خلال منظار ضيق، عدسة ملوثة بالانتماء الأعمى، لا يرى الإنسان إلا إذا طابق هويته، ولا يعترف بالألم إلا إذا نطق بلهجته و عقيدته. بل ينطلق هذا المقال من موقع المثقف العضوي، المثقف الذي يتجذر في قضايا الناس لا في امتيازات الوراثة، ويتنفس من رئة الشعب لا من عباءات الطوائف، المثقف الذي يقف عند تقاطع الأسئلة لا على هامش الإجابات الجاهزة، ويشتبك مع الواقع اشتباك الفكر مع التناقض.
إن المثقف الطائفي والعرقي في تقديري لا يصنع وعياً، بل يشوهه، لا يحرر الأوطان بل يأسرها في سجون الانقسام، لا ينظر إلى حجم الكارثة الإنسانية، بل يسأل: إلى أي طائفة ينتمي الضحية؟ وأي عرق يمثل الجاني؟ هؤلاء لا يعنيهم الجرح بقدر ما يعنيهم موقع السكين، لا تعنيهم الحقيقة بل الانتماء، لا تسكنهم الأخلاق بل الولاءات. ولذلك لا أستند في هذا المقال إلى آرائهم، ولا أستأنس بمواقفهم أو نقدهم، لأنني أراهم غير مؤهلين للحديث عن القضايا العامة، ما داموا يقرؤون الحريق من زاوية القبيلة، ويسألون عن دم الضحية من دفتر الطائفة. إنهم لا يساهمون في الحل، بل يراكمون المشكلة، لا يطفئون الحرائق، بل ينفخون الرماد. من هنا أنا أكتب للقارئ المروّض، بل للقارئ الراشد و المسؤول. لا لمن يحفظ النصوص، بل لمن يفكّكها. لا لمن يصفّق للكاتب، بل لمن يسائله. أكتب لمن لا يرى في الرواية حكاية بريئة، بل خطابًا يتقاطع مع الأيديولوجيا، ويتورّط في إنتاج المعنى والذاكرة والهويات العابرة.
لن أبدأ بتبرئة أحد، ولن أبرّر دمًا سُفك أو كرامة انتُهكت. نعم، إنّ ما جرى في دارفور من قتلٍ وذبحٍ واغتصاب هو جريمة تاريخية كبرى لا يمكن إنكارها، ولا يليق التخفيف من بشاعتها. ولكن، حين تُختزل الجريمة في عرق، حين تُصوَّر مجموعة او قومية كاملة على أنّها ليس من بينهم متعلم ، لحد أن تنزع منها انتماؤها للوطن، هنا ستتحول الرواية من سرد صادق إلى سلاح قاتل، ومن أدب إلى أداة تفتيت. الرواية التي تُقدم كدواء، قد تكون هي العلة، إن جاءت مشبعة بأيديولوجيا الأصالة، ومحمّلة بإرث تصنيفي يرى في الأول دخيلًا، وفي الآخر تهديدًا.
الحديث هنا ليس دفاعًا عن الجنجويد كجماعة مسلحة ارتكبت جرائم، بل تفكيكًا لخطر تحويل الأدب إلى محكمة عرقية، وخطر تحويل الكاتب إلى مشرّع للإقصاء. فالرواية حين تكرس للكراهية، تُجهّز الهولوكوست القادم. و الكلمة حين تصبح خندقًا، تسبق البندقية في الإصابة. لهذا لا يُمكن أن يؤخذ الشعب رواية مثل مسيح دارفور كمصدر معرفي محايد لتعريف الصراع، او لتحديد من هو الأصيل و من هو الدخيل، لأنّها تحمل انزياحات مفاهيمية خطيرة، وتؤسس لبنية سردية تأصل لأيديولوجية الإقصاء، وتُجذر لصراع انتمائي لا حلّ له إلا بالدم. و هذا ليس من باب التحريض، بل من باب المسؤولية.
كما أن هذا النقد، ليس صرخةً، بل مساءلة. ليس اتهامًا، بل تفكيكًا. لا يُدين الأدب، بل يُعيد مساءلته. لأن الأدب، إن لم يُفكّك الحروب، قد يصنعها من جديد بشكل أكثر بشاعة من قبل.
الرواية بين التوصيف والتحويل، مسؤولية
اللغة في زمن المحن العصيبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن هذه النوعية من الروايات، التي تغرق في الوصف دون مساءلة، وتستسلم للتأطير دون تفكيك، قد تعمّق الأزمة بدل أن تساهم في حلها، وقد تُضفي شرعية على خطاب العنف بدل أن تكشف بنيته. ومن هنا تنبثق الأسئلة المفتاحية التي أحاول من خلال هذا المقال ملامستها.
ما الذي يمنع إنسانًا من أن يحمل سلوكًا جنجويديًا؟ هل عرقه؟ أم ثقافته؟ ما الذي يمنع أن يكون الفرد سارقًا؟ أهي جيناته؟ أم تربويته؟ ما الذي يمنع أن يكون الكاتب جاهلًا لا يقرأ ولا يكتب؟ أهي جغرافيته؟ أم طائفته؟ ما الذي يمنعك أنت أو أنا من التحول إلى مغتصب للنساء؟ أهي لهجتك؟ أم لغتك؟ ثم ما الذي يمنح الروائي الحق الأخلاقي أو السياسي لتصنيف بعض المواطنين السودانين الذين يحملون ذات الهوية والجنسية بأنهم لا دولة لهم؟ أليست هذه عبارات خطيرة؟ أليس هذا خطابًا تأسيسيًا لأيديولوجيا إقصائية، تمهّد للفتك، لا للفهم، وللإبادة لا للمصالحة؟
من البداهة المعرفية، كما تعلمنا من المادية الجدلية، ليس هنالك إنسان مجرم بطبيعته، ولا إنسان سارق أو غبي بالفطرة، ولا قاتل مولود من رحم الجريمة. فالجريمة، كالسلوك، ليست قدرًا بيولوجيًا، بل نتيجة لشروط اجتماعية وموضوعية ملموسة. إذا توافرت، تدفع حتى أكثر الناس براءة إلى السقوط. وغياب الجريمة عن حياة فرد ما لا يرتبط بنقاء قبيلته أو عراقة نسبه، بل يرتبط بواقعه الإجتماعي لم تتوفر فيه شروط الفقر، أو التهميش، أو العنف البنيوي، أو التجهيل الممنهج.
ومن هنا، فإن الرواية إن لم تُفهم كأداة ضمن سيرورة معرفية جدلية، تظل أداة توصيف لا تفسير، وإنارة لا تحوّل، تضيء المشكلة لكنها لا تحلها، تضع علامة تعجب لكنها لا تفتح سؤالًا. إن الرواية التي لا تسائل، لا تزعزع، لا تُفكك، تتحول إلى مرآة للسلطة. كما أن
النقد الجذري للواقع لا يتم عبر الرمز وحده، بل عبر التحليل البنيوي للتناقضات، ونزع القناع عن الآليات المنتجة للأزمة لا اختزالها في فرد أو قبيلة او مجموعة ثقافية. فليس المطلوب شيطنة الفاعلين، بل تعرية البُنى. وليس الهدف صناعة عدو لغوي، بل كشف التواطؤات الصامتة في الخطاب.
وفي ضوء الفلسفة التفكيكية لجاك دريدا، لا يمكن التعامل مع النصوص بوصفها كليّات بريئة أو شفافة. فكل نص يُنتج من داخله ما يناقضه، وكل خطاب يحمل في ثناياه أثرًا لما يُقصيه. ولذلك فإن الرواية التي تسكت عن الأسئلة الأخلاقية الكبرى، أو تشرعن القتل تحت غطاء الخيال، لا يمكن أن تُقرأ كأدب مقاوم، بل كأدب تواطئي. فالروائي الحق ليس من يكتب بمداد الدم، بل من يعيد مساءلة اللغة نفسها، من يتكلم؟ عمن يتكلم؟ ولماذا يصمت حين يَجِبُ الكلام؟
الرواية والجنجويد، حين تتحول الكلمة إلى بارود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الخطر الأكبر لا يكمن فقط في ما حدث بعد 15 أبريل، بل في الكيفية التي أعادت بها الطبقة البرجوازية في الخرطوم، ومعها بعض المثقفين التقليديين وقطاعات من العامة، قاموا بتعريف الجنجويد انطلاقًا من رواية مسيح دارفور. هذا التوظيف السردي، وإن بدا للوهلة الأولى مسعى أخلاقيًا، إلا أنه في جوهره استثمار مصلحي، لا يستند إلى ضمير، بل إلى ذعر، ولا ينهض على العدالة، بل على الخشية من خسارة الامتيازات في ظل الحرب الدائرة.
فالبرجوازية، كما علّمنا الجدل الديالكتيكي، لا تهتم بالأخلاق إلا بقدر ما تخدم رأس المال و تراكم الثروة، ولا تُؤمن بالقيم إلا حين تُحصّن الموقع الطبقي الإقتصادي. ولذلك، فإن تمسّك هذه الفئة اليوم برواية مسيح دارفور ليس انحيازًا للعدالة ولا الأخلاق، بل هو اتكاء انتهازي على خطاب أدبي، كانوا بالأمس من أوائل من هاجموه، قبل أن يتحوّل اليوم إلى درعٍ ثقافي مؤقت لحماية ما تبقّى من سلطانهم على مفاصل الدولة، لا من أجل الإنسان، بل من أجل الامتياز الشخصي.
إن اعتماد المثقف على الرواية لتعريف الجنجويد دون تفكيكٍ نقدي للسياق السردي والبنية الإيديولوجية للخطاب الروائي، ليس فعل فهم، بل فعل تسليم. وهذا النوع من التسليم لا يُنتج وعيًا، بل يُراكم وهمًا. وإذا لم يُقاوم بتفكيك جذري، فإن مآلاته ستكون كارثية، كما سنرى في بعض النماذج التاريخية.
النموذج الأول
ــــــــــــــــــــــــــــ
رواية اليهودي العالمي التي كتبها هنري فورد في عشرينيات القرن الماضي لم تكن دراسة سياسية ولا وثيقة أمنية، بل كانت نصًا ساخرًا يتقمّص طابع التحليل، لكنه ساهم في ترسيخ معاداة السامية في أوروبا، ومهّد ثقافيًا ونفسيًا للهولوكوست. الرواية لم تطلق رصاصة، لكنها زرعت الفكرة. لم تأمر بالقتل، لكنها شرعنت الكراهية. لم تصرخ “اقتل”، لكنها همست احذر، وهو الهمس الذي تحوّل إلى محرقة.
النموذج الثاني: رواندا
وأدب الحروب العرقية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تندلع الحروب في رواندا إلا من خلال صياغة سرديات ملوّنة بالتمييز، حيث أُضفيت شرعية مزيّفة على النصوص والتصريحات الثقافية التي رسّخت خطاباً عنصرياً ضد التوتسي. كان الأدب والخطاب الثقافي، في هذه الحالة، أدواتً منظّمة للصراع، إذ أسهمت هذه التصورات المتحيزة في تبرير الإبادة الجماعية التي ارتُكبت عام 1994، وكسرت حاجز الإنسانية عبر تزييف الواقع وتشويه الذاكرة، مما أوجد أرضية خصبة للقتل والدمار.في هذا المشهد المظلم، تداخلت الكلمات مع الأفعال من خلال الاعلام و الأدب، وتلاقت الخطابات مع الرصاص، فتغلغلت لغة الكراهية في داخل أجهزة الدولة، وجعلت من القلم سلاحاً ذا حدّين.
فهذه النماذج ليست بعيدة عن الواقع السوداني، بل هما إنذاران. فالرواية حين تُكرّس للكراهية لجماعة أو تُؤصل للتمييز العرقي أو تُؤسطر نقاءً إثنيًا أو أرضيا، فإنها تتحول من حبرٍ إلى نار. من لغة إلى لعنة. من قصة إلى كارثة. فما الفرق بين القتل بالسكين والقتل بالكلمة؟ السكين تجرح الجسد، أما الكلمة فتُمزق الروح، وتغتال المعنى، وتزرع الشكّ بين المكوّنات، وتبني سرديات الموت. الكلمة، حين تُستخدم بلا وعي، لا تضيء بل تُحرق. لا تُداوي بل تُدمّر.
الرواية ليست خطبة سياسية، نعم. لكنها ليست أيضًا حيادًا بريئًا، ولا طهرًا لغويًا. هي خطاب مشحون، محمّل بالتاريخ، مثقل بالذاكرة، مرهون بالمسؤولية. ومن يكتب دون وعي تاريخي، أو دون التزام أخلاقي، قد يحوّل الكلمة إلى قنبلة، والفقرة إلى فوهة، والحبر إلى بارود. فمثلما يتحمّل الفيلسوف مسؤولية الأسئلة التي يطرحها، فإن الروائي يتحمّل مسؤولية الأسئلة التي ينبشها. لأن الحفر في الجراح ليس مجرد حنين، بل هو فعل سياسي، وجرح أخلاقي، وموقف إنساني. فإن لم يكن الحفر وعيًا، صار طمرًا. وإن لم يكن السؤال شجاعًا، صار خيانة.
في روايته مسيح دارفور، في الصفحة 32 التحديدًا، كتب الروائي:
الجنجويد يسكنون في الأحياء الطرفية في معسكرات ضخمة، يتمظهرون في المدينة في عربات لاندكروزر مكشوفة عليها مدافع الدوشكا، وتعلق على جوانبها الآر بي جي البغيض، وهم عليها في ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبرية والخوذات، لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد، على أكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية؛ لا يفرقون مطلقًا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى؛ الكلاب الضالة مثلا، وتعرفهم أيضا بلغتهم الغريبة «الضجر»، وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية. ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى «دولة». ليس لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم.
انتهى الاقتباس.
يتضح في هذه الفقرة موقعًا حادًا في قلب السرد، حيث يتماهى الخيال الشعري مع الرؤية الإدانويّة، ليصنع لوحة أدبية تنحو نحو التشويه أكثر من التحليل، نحو التصنيف أكثر من التفكيك. فالسرد هنا لا يصور، بل يصدر أحكامًا جاهزة؛ لا يحاور، بل يعزل؛ لا يُشرح، بل يُجرّم. وبينما تبدو الرواية أداة جمالية، تنقلب في هذه اللحظة إلى خطاب مطلق لا يقبل المساءلة، ولا يفتح باب التعدد، بل يغلقه بإحكام تنميطية. كما أن هذا المشهد، في عمقه البنيوي، لا يقلّ خطورة عن النصوص التي أطلقت شرارات الإبادة في أوروبا، وساهمت في تبرير المجازر في إفريقيا، وأجّجت نيران الكراهية في آسيا. فالرواية حين تتخلى عن مسؤوليتها الأخلاقية لا تُضيء الواقع، بل تحرقه؛ لا تفتح جراح الأسئلة، بل تُطبق على جراح الأجوبة.
المشكلة في هذا النوع من الكتابة ليست فقط في ما تقوله، بل في ما تُقصيه. فهي تُقصي الإنسان من إنسانيته حين تختزله في صورة الجنجويدي الهمجي، وتُقصي المجتمع حين تُلغيه لصالح صورة المعسكر المتوحش، وتُقصي التاريخ حين تضع الحدث خارج سياق الجدل والصراع الطبقي والسياسي والثقافي. لكن الرواية لا تُحاسب بمقدار ما تُجمل، بل تُقاس بمقدار ما تُسائل. وهنا يحضر السؤال: هل تصلح الرواية لأن تكون محكمة؟ وهل يجوز للخيال أن يتحول إلى حكم بالإدانة لا استدعاءً للفهم؟ إن الرواية التي تُشيطن الآخر دون مساءلة موقعها، تُسهم في إعادة إنتاج العنف الذي تدّعي فضحه، وتُكرّس خطاب الإبادة بذات الأدوات التي تدّعي مقاومتها.
إن المعالجة لا تتم عبر السرد الشاعري ولا التصوير الحسي، بل عبر الجدل الجدلي، الجدل الديالكتيكي الذي لا ينحاز للهوية، بل يسائلها؛ لا يصطف مع الطائفة، بل يتجاوزها؛ لا يُعيد إنتاج الانتماء الضيق، بل يُفككه. فالجدل الذي يختار الطائفة مكانًا للتموضع، يُعيد إنتاج العنف ذاته الذي يدّعي نفيه. والديالكتيك حين ينحاز للعِرق أو الجهة، لا ينتج فهمًا، بل يصنع إشكالًا؛ لا يُنير طريق الخلاص، بل يُظلم ممرات النجاة.
إن الرواية كما قال جاك دريدا لا تكتب الحقيقة، بل تكتب حولها، وتلك الحولية لا يجب أن تُترجم إلى عدوان مباشر، بل إلى توتر دائم بين الحضور والغياب، بين القول والصمت، بين ما يُكتب وما يُسكت عنه. ومن هنا، تصبح الرواية الحقيقية هي التي تُربك لا التي تُرضي، تُفكك لا التي تُبرمج، تُسائل لا التي تُقرر.
الرواية ومسؤولية المعنى: بين التنوير والتدمير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحرية الأدبية لا تعني صنع المشكلات، كما أن الإبداع لا يُعفي من المحاسبة، ولا يبرر الغياب عن الوعي الأخلاقي. فبين روائي يُضيء ولا يُنير، يُجهر ولا يُحذر، يُجسد الألم ولا يُداويه، وبين قارئ يستهلك دون تحقق، ويؤول دون مساءلة، تضيع الحقيقة ويولد الحقد لا التعاطف، تنمو الكراهية لا الفهم، ويتكاثر العنف لا الوعي. فالرواية، إذا خلعت عنها عباءة الضمير، ستنقلب من مرآة للواقع إلى مشرط في جسده؛ ومن أداة للشفاء إلى وسيلة للعدوى؛ من وعد بالمعنى إلى وعيد بالخراب. وإن لم تكن صرخة للإنقاذ، غدت صفارة للخراب؛ وإن لم تكن بوصلة للحياة، صارت بوابة للفناء.
لقد أشار ألبير كامو في الإنسان المتمرد، إلى أن الكاتب في أزمنة المحنة لا يملك ترف الصمت ولا حق العبث، لأنه يكتب من أجل الحياة ضد الموت، من أجل المعنى في وجه العبث، من أجل الإنسان في زمن الوحش. كما أكّد إدوارد سعيد أن المثقف الحقيقي ليس هو من ينسج الأحاديث مع السلطة، بل من يفكك سردياتها، لا من يُبرّر، بل من يُسائل، لا من يُساير، بل من يُزعزع. والرواية بوصفها خطابًا ثقافيًا، لا تقف على الحياد بين الضحية والجلاد، بل تميل إما إلى ترسيخ القيم أو تكريس الإقصاء، إلى بناء الجسور أو إشعال الحدود.
وإذا تأملنا في نماذج من الروايات التي كرّست للفتنة الطائفية أو العنصرية في القارة الإفريقية أو الأوروبية، نلحظ كيف تحولت بعض الأعمال إلى محرّضات على المجازر، لا شهادات على الألم؛ إلى أدوات تهييج لا وسائل تفكير؛ إلى وقود للذبح لا ضوء للفهم. فبعض نصوص الحرب اليوغسلافية، أو الأعمال التي سبقت الإبادة في رواندا، لم تكن سوى مسوّغات أدبية للوحشية، حيث تحولت وسائل الإعلام المتخيلة داخل النصوص إلى منابر للشيطنة، وأبواق للتحريض، لا مرآة للواقع ولا منصة للحوار.
فالرواية، تمامًا كالبندقية، ليست محايدة؛ قد تكون طلقةً في جسد الوطن، أو صرخةً في ضمير الأمة؛ قد تكون محرقة للمعنى أو منارة للنجاة. والكاتب، إن لم يتحلّ بالمسؤولية، انقلب من شاهد على الحقيقة إلى شاهد زور؛ من باني المعنى إلى هادم الذاكرة؛ من حامل للنور إلى مروج للعتمة. فالمسؤولية ليست نقيضًا للإبداع، بل هي جوهره؛ ليست قيدًا على الخيال، بل ضوءًا له؛ ليست عائقًا أمام الجمال، بل دليل عليه. فكل كلمة تُقال هي موقف، وكل شخصية تُرسم هي اختيار، وكل حكاية تُسرد هي انحياز: إلى الحياة أو إلى الهلاك، إلى الإنسان أو إلى الوحش، إلى المعنى أو إلى العدم.
بين رواية تُضيء وتُبصر، وتكشف وتُطهّر، وبين رواية تُظلم وتُضلّل، وتُهين وتُدمّر، يُقاس جوهر الفن، وتُختبر نوايا الكاتب. هل أراد الخلاص أم التيه؟ هل دعا إلى الفهم أم دعا إلى الفتنة؟ هل كان صوته صدى للحقيقة أم صدى للهاوية؟ هنا، تمامًا، تكمن مسؤولية المعنى، بين التنوير والتدمير.
الرواية بين اللغة والسلطة: نحو نقدٍ تفكيكيّ لمسؤولية السرد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية، بوصفها فعلاً إبداعيًا لا يتحرك في الفراغ، إنما تتخلق في قلب شبكة لغوية مكثفة، متشابكة، مشبعة بالتحيّزات الرمزية والاصطفافات الإيديولوجية. فاللغة ـ كما يؤكد جاك دريدا ـ ليست مرآةً صافية تعكس الواقع، بل نظامٌ من الفروقات والتأجيلات التي تُنتج المعنى بقدر ما تُقلق استقراره، تُضيء الفكرة بقدر ما تُلقي بظلّ الشك عليها، تُفصح بقدر ما تُضمِر، وتُظهر بقدر ما تُخفي.
ليست اللغة إذًا وسيلةً محايدة، بل حلبة للصراع، ومسرحًا لتأويل سياقات المضامين، وميدانًا للهيمنة. وإذا كانت الرواية تُكتب باللغة، فهي تُكتب في قلب هذا التوتر، ولا يمكن فهمها خارج بنيتها الخطابية. إنها لا تُصوّر الواقع كما هو، بل تُعيد تشكيله، لا تنقله بل تبنيه، لا تعكسه بل تُركّبه بلاغيًا وفق منطق التمثيل لا منطق التطابق.
واللغة في الرواية ليست فقط أداة للتعبير، بل آلية للتمرير؛ تمرير القيم، تمرير التصوّرات، تمرير الأحكام. ومن هنا فإن انحياز الرواية ليس دوماً انحيازًا للضحايا، بل قد يكون ـ في كثير من الأحيان انحيازًا للتبرير لا للتعرية، للتجميل لا للتعري، للتسويغ لا للتساؤل، للتكرار لا للقطيعة، للامتثال لا للاعتراض. فكم من رواية تُضيء البؤس ولا تُعالج أسبابه، تُشهّر بالتهميش دون أن تزعزع بنيته، تُفكّك السلطة شكليًا لكنها تُعيد إنتاجها رمزيًا. إنها تبوح ولا تُحاسب، تُثير ولا تُقوّض، تُحاكي ولا تُعارك، تطرح الأسئلة ولا تضمن أفق الإجابة.
لذا فإن تفكيك الرواية لا يبدأ من موضوعها، بل من خطابها، لا من سردها بل من سردياتها، لا من حكايتها بل من طُرُق حكايتها. الرواية ليست مجرد قصة تُروى، بل خطاب يُقال، وتوجّه يُرسّخ، وموقع يتكلم. وعلينا أن نسائل كيف تقول الرواية ما تقول، لا فقط ماذا تقول. من يتكلم؟ باسم من؟ ضد من؟ لصالح من؟ بأي سلطة سردية؟ وبأي شرعية رمزية؟
فالتفكيك بوصفه أداة نقدية لا يقتفي المعنى بل يزعزعه، لا يلتقط الرسالة بل يُفكك مرجعيتها، لا يتوقف عند المضمون بل يُغامر في البنية. إنه يُنقّب في ما تُخفيه اللغة، في ما تسكته الرواية، في ما تمنعه من أن يُقال. فكل رواية بهذا المعنى لا تُنتج فقط خطابًا، بل تُنتج حدودًا للخطاب، وتُحدد ما يمكن وما لا يمكن التفكير فيه.
ومن هنا، فإن نقد الرواية التي تتضمن مضامين عنصرية أو تُكرس كراهيةً مغلّفة بلغة سردية ناعمة، ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة أخلاقية، ومسؤولية معرفية، وموقفًا مناهضًا للإقصاء الرمزي. لأن مثل هذه الروايات لا تكتفي بعكس الواقع، بل تُعيد إنتاجه وفق مقولات مُسبقة، وتُشرعن العنف الرمزي بلغة جماليات زائفة، وتُرسّخ البنى التمييزية تحت غطاء الحياد السردي.
فالرواية التي لا تُخضع الواقع للسؤال، بل تُعيد تدويره بلغة “المعرفة غير الجدلية كما قد نسميها تتحول إلى أداة لتثبيت الاستعمار الرمزي لا مقاومته، وإلى حقل لإعادة إنتاج التمييز لا تفكيكه. إنها رواية تستبطن السلطة ولا تفضحها، تُعيد رسم الخرائط الثقافية لا لتفكيكها، بل لإعادة ترسيخها. نحن لا نحتاج إلى رواية تُصفّق للواقع، بل إلى رواية تُشقلبه، تُزعزعه، تُناقضه، وتُدين منطقه. نحتاج إلى رواية لا تُسلّم بالمعنى بل تُطارده، لا تتبنّى المنظور الواحد بل تُضاعف زوايا الرؤية. رواية تعترف أن الحقيقة ليست معطًى بل صراع، أن السرد ليس نقلًا بل تأويل، أن اللغة ليست أداة بل سلطة.
حين تُضَخ المعرفة في النص الروائي بصيغتها الجامدة، دون مساءلة للتمايزات الاجتماعية أو تفكيك للتناقضات السياسية التي تُنتج الكراهية وتُشرعن التمييز، تتحوّل الرواية من أداة جمالية إلى وسيلة إيديولوجية، ومن خطاب إبداعي إلى خطاب إقصائي، تخدم سردية معينة وتغيب سرديات مغايرة، وتُعلي من وهم الحقيقة على حساب حقيقة الوجدان، أو ذاكرة الجماعة على حساب ذاكرة الضحية.
من هنا تبرز أهمية النقد بوصفه فعلاً تفكيكياً، لا يكتفي برصد الزخارف الأسلوبية أو الإحالات الجمالية، بل ينفذ إلى البنى المستترة، ويغوص في الطبقات الرمزية، ويُضيء الأنساق المضمَرة التي تسكن النص وتتحكّم في تأويله. النقد هنا لا يكون حاشية على هوامش الأدب، بل يكون اشتباكاً في صلبه، ومواجهة للغته، وخلخلة لمنطقه.
فالنقد الجدلي لا يُقارب النصوص العنصرية بموقف أخلاقي فقط، بل يفكّك خطابها من الداخل، يفضح أنساقها المضمرة، يُعرّي استعاراتها، ويكشف كيف تُعيد إنتاج التراتبيات العرقية والرمزية في هيئة حبكة أو شخصية أو تعاطف زائف. إنه نقد يكتب ضد التواطؤ، ويقترح معرفة تقاوم، وخطاباً يُحرّر لا يُكرّس، ويمنح الأدب إمكانيته التنويرية لا التبريرية، والكاشفة لا التجميلية. فإن غياب هذا النقد، أو الإكتفاء بالتمجيد والتصفيق، سيُسهم في تطبيع الخطاب العنصري، ويمنح الكراهية مشروعية سردية حين تتلفع بثوب الواقعية، وتتقن فنون الحكي. أما حضور النقد الجدلي، النقد الذي يُقارع لا يُجامِل، ويفكّك لا يُجمِّل، فهو القادر وحده على فتح أفق للقراءة لا يتواطأ مع الاستبداد، بل يُقوّضه، ولا يُكرّس الإقصاء، بل يُزعزعه.
فالأدب حين يُحرَّر من سطوة الإيديولوجيا، يُصبح أداة للتحرّر لا للهيمنة، وللكشف لا للإخفاء، وللعدالة لا للتماهي مع القوة. والنقد، حين يكون جذرياً وجدلياً، يُعيد إلى النصوص روحها المقاومة، ويُعيد إلى القارئ دوره الفاعل لا التابع، المتأمل لا ال
إرسال التعليق