حذيفة أبو نوبة يكتب : الثلاثون من يونيو : سقوط أوهام الاحتواء و نهوض الموقف الوطني - صوت الوحدة

حذيفة أبو نوبة يكتب : الثلاثون من يونيو : سقوط أوهام الاحتواء و نهوض الموقف الوطني

في سيرة الشعوب، لحظات فارقة تُعادل قروناً من الانتظار، والثلاثون من يونيو في تاريخ السودان لم تكن يوماً عابراً في رزنامة وطنٍ أرهقته الخيبات، بل كانت صرخة متأخرة ضد إرثٍ متراكم من الطغيان، وتأكيداً على أن الشعب السوداني حين يثور، لا يفعل ذلك نزوةً أو بدافع اللحظة، بل بدافع الوعي المتراكم والرغبة في الحرية والعدل والانعتاق.

لقد جاءت ثورة ديسمبر المجيدة كتمثيل صادق لحالة الغليان الشعبي المتوارث، وبلغت ذروتها في ذلك اليوم المهيب، حين خرج الملايين في الثلاثين من يونيو ليؤكدوا أن صوتهم لن يُكمم، وأن التغيير لا يُصادر بمراسيم فوقية أو تحالفات انتهازية، خرجوا لأنهم أدركوا، بعد عقود من خيبات اليسار واليمين، أن لا خلاص بلا انحيازٍ كلي لمطالب الشعب.

ولعل من أبرز محطات هذا الانحياز الشعبي، والتي أثارت زلزالاً في بنية السلطة العميقة هو موقف قوات الدعم السريع، التي اختارت على خلاف المتوقع، أن تتموضع بجانب مطالب الثورة، وتتبنى بوضوح خطاب التحول المدني والانعتاق من قبضة الإسلاميين، لم يكن ذلك موقفاً تكتيكياً عابراً، بل خياراً استراتيجياً أربك الحسابات التقليدية، فقد رأت فيها قوى الثورة سنداً في لحظة تخلى فيها كثير من الفاعلين عن الشعارات التي رفعوها، وهو ما جعل الحركة الإسلامية، التي ظلت تسكن قلب المؤسسة العسكرية، تُسرع بإشعال فتيل الحرب في الخامس عشر من أبريل، كخطوة استباقية للانقلاب على هذا الانحياز، ومحاولة يائسة لاستعادة سيطرتها المفقودة على القرار الوطني.

الثلاثون من يونيو ليس مجرد تاريخ؛ إنه دليل متكامل على أن تضحيات الشهداء لم تكن عبثاً، وأن الدماء التي سُفكت في القيادة العامة، وفي أطراف السودان، من كجبار إلى دارفور، لم تُسال لتغسل وجوه أنظمةٍ قميئة، بل لتؤسس لدورة جديدة، تدار من خارج الثكنات العسكرية، دورة تنهض بالمهام والقضايا الوطنية الكبرى، التي تتسق مع إرادة الجماهير التي خرجت بلا أجندة سوى الخلاص.

إن الفشل التاريخي للأنظمة المتعاقبة، مدنية كانت أم عسكرية، لا يكمن فقط في فسادها أو قمعها، بل في عجزها البنيوي عن إدراك أن السودان ليس أرضاً تُدار من المركز، بل جسد حي من التنوع والتطلعات المختلفة، وأن الثورة لم تكن مجرد احتجاج على غلاء أو قمع، بل كانت رفضاً جذرياً لكل ما هو سائد وسط الاجتماع السياسي السوداني، وتمرداً على طريقة ونهج إنتاج السلطة نفسها.

لقد وعى السودانيون، وربما في وقتٍ متأخر، أن العدالة لا تُمنح، وأن الدولة لا تقوم على المصالح الفئوية أو المحاصصات العرقية، بل على عقد اجتماعي جديد تُكتب فيه الحقوق بدماء الشهداء، وتُحرس فيه المكتسبات بإرادة الجماهير.

الثلاثون من يونيو هو اليوم الذي سقطت فيه أوهام الاحتواء، التي كان يظن العسكر/كيزان، انها سوف تجعل من قوات الدعم السريع، وقوداً لمؤامراتهم وحارساً لامتيازهم، حيث تكسرت في هذا التاريخ رهانات الطغاة، واصطدمت بقوة موقف المؤسسة المؤمن والمنحاز للثورة والتغيير، وهو كذلك اليوم الذي كتبت فيه الجماهير بيانها بمداد الغضب والشجاعة، وأعادت تعريف مفردات مثل الانحياز والشرعية والمدنية.

واليوم بعد سنوات من ذلك المشهد المهيب، لا تزال أسئلة الحرية والعدالة مفتوحة، ولا تزال الثورة حية ومستمرة، وقد رسخت جذوتها في صدور الأشاوس الأبطال، فما أشعلها لم يكن حدثاً طارئاً، بل إرثاً طويلاً من النضال والتوق إلى وطن لا يُدار من الأعلى، بل يُبنى من القاعدة، من قلوب الناس، من صرخاتهم في الطرقات، ومن حلمهم الذي لا يخونهم، حتى حين يخونهم الجميع.

إن الثورة السودانية بكل ما فيها من وجع، تظل تجربة عظيمة في التمرد على القهر، ودروسها لن تندثر، لأنها كتبت بالدم لا بالحبر، وتكفل بحراستها جيلٌ من الأشاوس لم يعد من الممكن احتوائه في جلباب الدولة القديمة المهترئ.

في الثلاثين من يونيو، قال الشعب السوداني كلمته، وحدد وجهته، ولا يزال العمل مع الأحرار مستمر، كتفاً بكتف وموقف بموقف، في جبهات القتال.

إرسال التعليق

لقد فاتك