عبد الحفيظ الإمام يكتب :صفقات إقليمية هادئة: كيف يُعاد رسم المشهد السوداني لتحجيم الإسلاميين عبر بوابة ليبيا؟
مصر وتركيا والدعم السريع: خطوط تفاهم جديدة لإغلاق منفذ النفوذ الإسلامي في الخرطوم»
في رمال الإقليم المتحركة، لا يحدث شيء بمعزل عن خرائط المصالح المتشابكة. ففي الوقت الذي تشهد فيه ليبيا إعادة ترتيب للأدوار الإقليمية، ينعكس هذا التغيير مباشرة على السودان، حيث تصوغ أطراف عدة تفاهمات غير معلنة، جوهرها تحجيم النفوذ الإسلامي الذي لطالما تمدّد عبر بوابات الدعم الخارجي.
ظل شرق ليبيا لسنوات ساحة نفوذ حيوية لمصر، بمثابة عمق استراتيجي يؤمّن خاصرتها الغربية ويردع خصومها الإقليميين. لعب معسكر حفتر دور «جدار الصد» أمام أي تمدد تركي كان يُنظر إليه كتهديد مباشر لمعادلـة التوازنات التي رسّختها القاهرة وحلفاؤها الخليجيون. لكن مشهد 2025 يكشف عن تحوّل استراتيجي لافت: أنقرة تفتح أبوابها لصدام حفتر – نجل قائد «الجيش الوطني الليبي» – وتبحث معه تفاهمات عسكرية وتقنية كانت قبل أعوام ضربًا من المستحيل.
هذا الانفتاح ليس مجرّد مجاملة بروتوكولية، بل انعكاس لصفقة أعمق نسّقتها القاهرة على الأرجح، تقوم على منح تركيا منفذًا محدودًا ومدروسًا إلى شرق ليبيا. هكذا توظّف مصر خصم الأمس – النفوذ التركي – ليكون أداة توازن داخل المشهد الليبي نفسه، وفي الخلفية، ورقة ضغط إضافية في ملف السودان.
-الدعم السريع وصفقة المصالح
في المقابل، تتعزز مؤشرات تفاهمات اقتصادية وأمنية بين مصر وقوات الدعم السريع السودانية، تركّز على تأمين طرق الإمداد العابرة للحدود، وتسهيل خطوط التجارة، مقابل أدوار عسكرية وخدمات لوجستية تضمن لمصر الحفاظ علي مصالح اقتصادية مع السودان.
في هذه المعادلة، يصبح دعم تركيا للإسلاميين السودانيين ورقة يجب تحييدها بالكامل. فتحييد أنقرة عن مغامرة استعادة نفوذها التقليدي داخل المشهد السوداني يعني سحب الأكسجين من الرئة التي يتنفّس منها التيار الإسلامي الذي فقد الكثير من أوراقه بعد سقوط نظام البشير.
-ليبيا كنقطة ارتكاز
بين شرق ليبيا وغرب السودان مساحات مفتوحة ومسارات تهريب معقّدة لطالما استفادت منها الجماعات المسلحة والحركات العابرة للحدود. حين تلتقي مصالح القاهرة وأنقرة على (تنظيف) هذه الممرات من شحنات السلاح والدعم اللوجستي، فإن ذلك يضيف طبقة ضغط جديدة على أي مشروع لإعادة تعبئة الإسلاميين أو حركاتهم القديمة بواجهة جديدة.
وبينما توظّف تركيا تفاهمها مع حفتر لتثبيت موطئ قدم في ملف الغاز والترسيم البحري، فإن القاهرة تستفيد من (تليين) أنقرة لتكمل تفاهمها مع الإمارات والسعودية في ملف السودان، فتغلق الطريق أمام أي دعم إسلامي عبر بوابة الغرب الليبي أو البحر الأحمر.
-انحسار مدّ الإسلاميين: ترتيب هادئ
ليست هناك اتفاقيات مكتوبة على الملأ، ولا صور تذكارية لهذا التحجيم المنظم. لكنها لعبة مصالح معقدة تُدار بهدوء في غرف مغلقة وحدود رخوة:
إعادة فرز الأدوار في ليبيا.
إعادة تعريف النفوذ التركي.
تأمين عمق استراتيجي لمصر في السودان.
تقليم أظافر التيار الإسلامي بتجفيف مصادر إمداده الإقليمي.
-لا تركيا اليوم هي تركيا 2011، ولا القاهرة مستعدة لتكرار سيناريو الفوضى…
الخاتمة
يظن البعض أن الإسلاميين يمكنهم استعادة لحظاتهم الذهبية القديمة بمجرد تغيّر الميدان السوداني. لكن الحقيقة الأوضح اليوم أن المزاج الإقليمي تغيّر: لا تركيا اليوم هي تركيا 2011، ولا القاهرة مستعدة لتكرار سيناريو الفوضى. وبقدر ما تُغلق الحدود الليبية ويُعاد ترتيب المشهد عبر تفاهمات محسوبة، يصبح الإسلاميون أقل قدرة على إعادة التموضع، وأقل نفوذًا في معركة إعادة تشكيل الدولة السودانية.
في الخرطوم، كما في بنغازي وأنقرة والقاهرة، كل خيطٍ بات متصلًا في رقعة شطرنج إقليمية عنوانها: النفوذ لأقوى صفقة… لا لأقوى شعار.
إرسال التعليق