البشر العريفي يكتب : بين البندقية و المناورة : لماذا تفشل الهدنات في السودان ؟
لم تكن الهدنة الأخيرة المقترحة للسودان – والتي حملها الامين العام للأمم المتحدة غوتيريش ووافق عليها الجيش السوداني – سوى محاولة يائسة لشراء الوقت. فثلاث مبادرات هدنة سابقة انهارت قبل أن ترى النور، وكلها كانت تصطدم بعقبة واحدة: الجيش السوداني، وجناحه السياسي العائد من رماد المؤتمر الوطني، لا يريد السلام بقدر ما يريد إعادة ترتيب أوراقه المهترئة ميدانياً.
في الفاشر، العاصمة التي أصبحت عنوانًا للمواجهة الحاسمة، لا يبدو أن الجيش يملك من أمره شيئًا. الفرقة السادسة، آخر ما تبقّى له من تموضع رمزي في الإقليم، أصبحت محاصرة تمامًا. الإمدادات انقطعت، المعنويات انهارت، وبدأ الجنود يفرّون من مواقعهم. وقد تم القبض مؤخرًا على أحد الجنود الذين مثّلوا بجثمان الشهيد اللواء علي يعقوب، ما يكشف عن تفكك داخلي لم تعد قيادات الجيش قادرة على السيطرة عليه.
الموافقة المتأخرة على الهدنة الأمريكية لا علاقة لها بالمدنيين، ولا بالأوضاع الإنسانية المتردية، بل جاءت كغطاء لمحاولة إيصال الإمدادات إلى الفرقة المنهارة. “مساعدات إنسانية” هي التسمية الرسمية، لكن خلفها تقبع نوايا عسكرية صريحة لإنقاذ قوات منهارة، ومحاولة ترتيب الصفوف قبل انهيار وشيك.
في هذا المشهد، تبرز قوات الدعم السريع بثباتها وموقفها الواضح. لا تلويح بالسياسة، ولا مجاملة لمبادرات فضفاضة، بل خطاب صريح وموقف حاسم. المستشار القانوني لقائد قوات الدعم السريع، مولانا محمد المختار، اختصر الموقف بكلمات لا تحتمل التأويل:
“لن تكون هناك هدنة لا في الفاشر ولا في أي مكان آخر، ما بيننا وبين الجيش هو البندقية فقط.”
هذا ليس مجرد رفض للهدنة، بل إعلان موقف عسكري وسياسي واضح، ينطلق من قراءة دقيقة للواقع: الجيش ينهار، والمعركة على وشك أن تُحسم، والحديث عن التفاوض تحت غطاء هدنة إنسانية هو مراوغة لا تستحق الالتفات.
ما يجري في الفاشر اليوم يتجاوز مدينة محاصرة أو فرقة عسكرية آيلة للسقوط. ما يجري هو إعادة تشكيل لمعادلة القوة في السودان. الدعم السريع لم يعد مجرد قوة تقاتل في الأطراف، بل بات رقمًا حاسمًا في معادلة الصراع، لا يمكن تجاوزه أو الالتفاف عليه.
أما أولئك الذين ما زالوا يراهنون على جيش يتآكل من الداخل، ويغرق في ولاءات سياسية متجمّدة، فعليهم أن يسألوا أنفسهم بصدق:
هل ما زال الجيش قادرًا على تمثيل الدولة؟
أم أن الوقت قد حان للاعتراف بالتحولات الجارية على الأرض، وبأن السلاح وحده هو الذي يرسم خطوط المستقبل الآن؟
قد لا تكون هذه الحقيقة مريحة للبعض، لكنها الحقيقة التي تصرخ بها الفاشر كل يوم. وفي زمن الحرب، الصراحة أصدق من الشعارات، والبندقية أصدق من البيانات
إرسال التعليق