عمار نجم الدين يكتب : ليس الذبيح الأخير : مناوي..تكرار الطقس الدموي للمركز
حين تبدأ السلطة المركزية في فقدان السيطرة، تلجأ إلى الطقس الذي تبرع فيه منذ قرون: طقس الذبح السياسي. وها نحن الآن نشهد مقدمات الطقس ذاته، لكن هذه المرة الضحية القادمة هو مني أركو مناوي، الذي ظلّ لعقود يدور في فلك السلطة، يحاورها تارة، ويصادمها أخرى، لكنه الآن في طريقه لأن يُسلّم على مذبح “الوحدة المركزية”، كما سُلِّم قبله محمد حمدان دقلو، حين تجرّأ على كسر هندسة الهيمنة.
ما نشهده ليس مجرد حملة إعلامية ضد مناوي، بل هو إعادة إنتاج لنفس الديناميكيات البنيوية التي حكمت تفاعل المركز مع كل من تجرأ على كسر بنيته الصلبة. التوصيفات العنصرية، اتهامات النهب، إشاعة الفوضى، واتهامات “العمالة” – كلها أدوات قديمة جُرِّبت سابقًا ضد الدعم السريع، وتُعاد الآن ضد حركة تحرير السودان بقيادة مناوي.
في أعقاب التباين بين حميدتي والحكومة المركزية، انقضّت آلة الإعلام المركزي – بمختلف تلويناتها الأيديولوجية – على الرجل. ومن داخل أبواق “الثورجية” الذين هم اليوم في معسكر بورتسودان، ومن أقلام “الحداثة”، إلى ميكروفونات “كيزان الثورة”، تشكّل إجماع غريب، لكنه ليس جديدًا. ففي لحظة الخطر على البنية المركزية، تسقط التناقضات، ويتوحّد “المثقفون المركزيون”: اليساري، السلفي، القومي، الكوز، الثورجي، الليبرالي، الملحد، والإسلامي. كلهم يغفرون لبعضهم خطاياهم، ويتناسون جراحهم، حين يتعلق الأمر بالحفاظ على قلب السلطة: المركز النيلي ومؤسساته المتخيلة.
كان حميدتي خطأً في نظر الدولة العميقة؛ خطأً سمح له ببناء مؤسسة عسكرية–أمنية–اقتصادية خارج القبضة المركزية، فكان لا بد من ذبحه في اللحظة المناسبة. وكان يوم 15 أبريل 2023 هو تلك اللحظة. لكن الذبح لم يكن عسكريًا فقط، بل كان ثقافيًا وسياسيًا وإعلاميًا. أما جرائم الجيش، التي أقر بها ناطقه الرسمي، ومجازر فضّ الاعتصام، والانقلابات على الديمقراطية منذ سبعة أعوام – فهي تُغفر له، فقط لأنه يمثل مؤسسة تحمل بنية الهيمنة الموروثة من المستعمر إلى الدولة الوطنية الفاشلة.
اليوم يتكرر السيناريو. مناوي، الذي حاول أن يلعب على الحبال، بقوله “شوية مع ديل وشوية مع ديل”، انكشفت نواياه باكرًا. فالمركز لا يثق في من يحاول إعادة تجربة حميدتي – حتى لو لم يمتلك قوته. فالهامش حين يبدأ في تشكيل أدواته خارج هندسة المركز، يُصنَّف خطرًا لا بد من سحقه قبل أن يشتدّ عوده.
إن توصيف قوات مناوي بـ”التشاديين”، وبأنهم “ينهبون الشمال”، ليس إلا إعادة إنتاج لخطاب “المليشيات الأجنبية” الذي أُلصق سابقًا بالدعم السريع. وهو خطاب عنصري لا يهاجم الأفعال بقدر ما يهاجم الجذور، ويستدعي عقدة “الآخر غير المستحق” التي يحملها المركز تجاه كل من لا ينتمي إليه جغرافيًا وثقافيًا وإثنيًا.
السلطة في السودان ليست فقط في الخرطوم، بل في بنية التفكير، وفي توزيع الرمزية، وفي احتكار تعريف الوطنية. مناوي الآن في مرمى النار، لأنه أصبح عبئًا بعد انتهاء معارك الشمال، ولم يعد يُستخدم كأداة مؤقتة. ومن يظن أن المركز سيغفر له لأنه قاتل في صفه، فهو لم يفهم التاريخ.
إنها دورة الذبح التي لا تتوقف. وفي كل مرة يُختار “خروف” جديد، وتُهيّج المنابر، وتُعبَّأ الوسائط، ويُطلق القطيع المركزي نباحه، ليأكل الضحية حتى العظم. والضحية هذه المرة هو مناوي.
لكن الذبح ليس نهاية الطقس، بل بدايته. فبعده تُعاد صياغة البنية، ويُعاد ترتيب المشهد، وتُحفَظ مصالح المركز. فقط تتغير الوجوه، وتبقى البنية.
فهل يتعلم الهامش، أخيرًا، أن من يطلب الاندماج في البنية دون تفكيكها، يكون هو ذاته القربان القادم
إرسال التعليق