السياسة السودانية وعدم الاستفادة من التجارب!حينما يذوب الثلج في الماء(١)
يتناول هذا المقال نظامي الحكم العسكريين الانقلابيين (مايو والإنقاذ)، في سياق تعاملهما مع القوى السياسية والمدنية والعسكرية التي قاومتهما، وما تحتاجه تلك الوقائع من سرد لأغلب التفاصيل، سيتم عرضه على جزأين مترابطين وصولاً إلى الخلاصة.
رغم أن الثلجة أصلها ماء، فإن دخول عوامل أخرى مشتركة حوّلها إلى كتلة صلبة مغايرة لهيئتها الأصلية، لكنها حين توضع في الماء السائل تبدأ تدريجيًا في الذوبان والتلاشي وفقدان خصائصها.
هذا الوصف المجازي يمكن إسقاطه على كثير من الكيانات السياسية السودانية التي دخلت في مواجهات مع الأنظمة الشمولية ثم عادت لتحاورها، لتنتهي بذوبانها في تلك الأنظمة، دون أن تُحدث تغييرًا يُذكر.
وبالعودة إلى تجارب القوى السياسية السودانية المعارضة لنظامي مايو (1969–1985) والإنقاذ (1989–2019)، نلاحظ أنها اتخذت في البداية وسائل مقاومة مسلحة للتعبير عن أهدافها. ويمكن تقسيم هذه القوى إلى فئتين:
- فئة هدفت إلى إسقاط النظام تمامًا، وبناء نظام بديل على أنقاضه.
- فئة أخرى سعت إلى الضغط عليه لتحصيل مكاسب جزئية أو كاملة دون المطالبة بإسقاطه الكامل، وقبلت ببقاء النظام حال استجابته لمطالبها.
ورغم الاختلاف بين المجموعتين، إلا أن المآلات كانت متشابهة في كثير من الأحيان، وتمثلت في الذوبان داخل النظام.
تجربة مايو (1969–1985م):
كان أول انقلاب عسكري أجهض الديمقراطية الثانية في السودان، نفذه العقيد جعفر نميري بدعم شيوعي.
خلال فترة حكمه، واجه مقاومة من عدة أطراف، أبرزها:
• المحاولتان العسكريتان الفاشلتان بقيادة هاشم العطا (بدعم من الحزب الشيوعي) وحسن حسين.
• الحركة المسلحة في الجنوب (الأنانيا) التي توصلت إلى اتفاق أديس أبابا 1972م، الذي أجهضه نميري لاحقًا عام 1983م.
• تحالف الجبهة الوطنية الذي ضم حزب الأمة، والاتحاديين، والإسلاميين، ونفذ عملية عسكرية بدخول أمدرمان في يوليو 1976م انطلاقًا من ليبيا، لكنها فشلت.
لاحقًا، دخلت هذه القوى في “المصالحة الوطنية” عام 1977م، مما أدى إلى تآكل المشروع المعارض، وتأسيس الاتحاد الاشتراكي كواجهة سياسية.
أدى دخول الإسلاميين في المصالحة إلى تمرير قوانين سبتمبر 1983م، وتحويل النظام المايوي من يساري إلى نظام يميني إسلامي متشدد، ما أدى إلى سقوطه بثورة شعبية في أبريل 1985م.
⸻
السياسة السودانية وعدم الاستفادة من التجارب!
حينما يذوب الثلج في الماء…! [2-2]
يونيو 2025م
بقلم: نصرالدين رحال (المحامي)
نواصل في هذا الجزء استعراض تجربة الحكم الشمولي الثاني في السودان:
تجربة الإنقاذ (1989–2019م):
نفذت الجبهة الإسلامية القومية انقلاب 30 يونيو 1989م، في مشهد تآمري معروف بعبارة: “الترابي إلى السجن، والبشير إلى القصر”.
مارس النظام قبضة أمنية صارمة، واحتكر السلطة لثلاثة عقود، قمع خلالها المعارضة بشتى الوسائل.
شهدت هذه المرحلة اتفاقيات عديدة مع القوى المسلحة والمدنية، كان القاسم المشترك بينها أنها حملت في طياتها عناصر فنائها، وانتهت جميعها إلى الفشل والتذويب داخل النظام:
أبرز ملامح التجربة:
• الإعدامات العسكرية: أبرزها إعدام 28 ضابطًا في انقلاب رمضان 1992م، والذي نُسب إلى البعثيين.
• تشظي الحركة الشعبية والجيش الشعبي عبر اتفاقيات فاشلة مع قيادات منشقة مثل رياك مشار وكاربينو كوانين، أبرزها اتفاقيات “فشودة” و”الخرطوم للسلام”.
• اتفاقيات فاشلة مع القوى المدنية: دخلت فصائل من التجمع الوطني الديمقراطي في اتفاقات ثنائية (القاهرة، أسمرا، جدة، جيبوتي)، انتهت جميعها بلا أثر ملموس، وأسهمت في تقوية النظام بدل إضعافه.
• اتفاقية نيفاشا 2005م: رغم أنها أنجزت بضغط أميركي، وأسست لفترة انتقالية بدستور 2005م، إلا أنها أدت لاحقًا إلى انفصال الجنوب، دون أن تحقق سلامًا شاملاً.
• حركات دارفور المسلحة: خاضت معارك مريرة مع النظام، أبرزها اتفاق أبوجا 2006م الذي انخرط فيه مني أركوي مناوي، واتفاق الدوحة 2011م بقيادة التيجاني سيسي وأبو قردة، وكلا الاتفاقين لم يحققا أهداف الحركات، بل قادا إلى تلاشيها داخل مؤسسات النظام دون تأثير فعلي.
خلاصة التجربة:
تُظهر هذه المحطات أن النخب السياسية السودانية لم تستفد من دروس الماضي، وظلت تكرر نفس الأخطاء، في الدخول في اتفاقيات مع أنظمة شمولية لا نية لها في الإصلاح أو التنازل الحقيقي.
ويبقى الأمل الوحيد في تشكيل كتلة مدنية موحدة، تلتف حولها غالبية السودانيين والسودانيات، داخل السودان وخارجه، دون إقصاء، لوضع برنامج وطني واضح وشفاف، يمهّد الطريق لحكم مدني راشد.
تمهيد للمقال القادم:
نظرًا لارتباط الأحداث أعلاه بالواقع الراهن، سأتناول في مقالي القادم:
“حرب 15 أبريل 2023م: أسبابها، مسبباتها، وكيفية إيقافها”
إرسال التعليق