السودان و أزمة القائد : هل يبحث الناس عن الصدق و الشجاعة لا عن الشهادات ؟
في تاريخ السودان الحديث، لم تكن الأزمة دائمًا في الشعب، بل في غياب “القائد المؤثر” الذي يجمع ولا يفرّق، يُلهم ولا يُخيف، يتحدث بصوت الناس لا من فوق رؤوسهم. كثيرًا ما نُردِّد أن السودانيين لم يتعرّفوا بعد على معنى القائد الحقيقي؛ لم يعرفوا كيف يحبونه ويثقون به ويتبعونه بإرادتهم الحرة. فهل نحن أمام أزمة قيادة متجذّرة، أم أن الأزمة في معاييرنا نحن لاختيار القادة؟
في بلدٍ متعدد الأعراق والثقافات، ومثقل بتاريخ طويل من المركزية والإقصاء، ظلّ مفهوم القيادة محصورًا في “النخبة المتعلمة”، غالبًا من المركز، ممن يتحدثون بلغة السلطة، لا لغة الناس. لكن، هل الشهادة تكفي لصناعة القائد؟ هل الثقافة والخطابة وحدهما تكسبانك حب الجماهير؟
تطرح التجربة السودانية تساؤلًا جوهريًا: هل القيادة فن يُتعلَّم في الجامعات، أم أنها صدق وشجاعة وحضور إنساني؟ تجربة الدكتور عبد الله حمدوك كانت علامة بارزة. رجل مدني، متعلم، ذو حضور هادئ ومهذب. أحبّه الناس لأنه بدا وكأنه الحلم المؤجل، المثقف الذي يتحدث بلغة عصرية وينتمي إلى مشروع مدني جامع. لكنه، حين جاء وقت القرارات، افتقد ما كان الناس يبحثون عنه: الشجاعة، الحسم، والانحياز للثورة. لم يعرف كيف يُحوّل القبول الشعبي إلى سلطة فاعلة، فانطفأت شعبيته كما يذبل الأمل حين يُخذَل.
يقول البعض إن التعدد العرقي والإثني أحد الأسباب التي تمنع ظهور قائد جامع لكل السودانيين. لكن عبر التاريخ، لم يكن هذا التعدد هو المشكلة بحد ذاته، بل غياب الرؤية التي تقود هذا التنوع نحو مشروع وطني موحَّد. ولعلّ القادة الذين أحبّهم الشعب — رغم قلّتهم — كانت صفاتهم المشتركة الصدق والشجاعة، لا الانتماء القبلي أو الجهوي.
بعد 15 أبريل، شهد السودان تحوّلًا في مفهوم “القائد”. لم يعد الناس يبحثون عن شهادات أو قدرة على الخطابة، بل عن مَن يثبت لهم أنه صادق ومستعد للتضحية. وهنا يظهر محمد حمدان دقلو “حميدتي” كحالة مثيرة للجدل، لكنه مثال حي على هذا التحول. فقد استطاع حشد الولاء من مناطق مهمشة تاريخيًّا، لأنه تحدث بلغتهم، ونقل صوتهم إلى الساحة السياسية، وجسّد صعودًا اجتماعيًّا وسياسيًّا طال انتظاره بالنسبة لهم.
ورغم ماضيه المرتبط بالنظام السابق، ورغم أن المركز ما يزال ينظر إليه كمجرد “ميليشيا”، إلا أنه في دارفور وكردفان، ووسط الإدارات الأهلية التي ظلت لسنوات تحت سلطة الدولة المركزية، صار يُنظر إليه باعتباره قائدًا حقيقيًا. ليس لأنه الأقوى عسكريًا فقط، بل لأنه الشخص الذي قال علنًا “لقد أخطأت”، لأنه رفض الحرب حين أصبح وقودها أهله، لأنه تحدث بلسانهم، ودافع عن فكرة أن للغرب السوداني الحق في أن يكون في قلب المعادلة، لا على هامشها.
في عيون مجتمعات الهامش، القائد ليس من يحمل الشهادة فقط، بل من يحمل الهمّ، من يشبههم، من لم يأتِ ليفرض عليهم مشروعًا جاهزًا، بل خرج من بينهم حاملًا مشروعهم. لذلك، حين فشل الآخرون في حشدهم، استطاع هو — برمزية التمثيل والصدق — أن يستدعي ولاءً حقيقيًا.
هذا التحوّل الثقافي والاجتماعي لا يمكن اختزاله في شخصية حميدتي وحده، بل هو تحوّل في منطق القيادة نفسه في السودان؛ منطق لا يُصاغ في الجامعات أو في مراكز الخرطوم الثقافية، بل في المجتمعات المحلية: في الجنينة، في كادوقلي، في نيالا، في الفاشر، في الدلنج، وفي أقاصي الجنوب الجديد، حيث تولد الحاجة إلى صوت لا يخون، ولا يبيع، ولا يتحدث باسمهم دون أن يعاني معهم. ولعلّ هذا ما يفجّر صدمة المركز اليوم: أن القيادة لم تعد تُصنَع فيه، وأن الشرعية لم تعد تخرج من النخبة وحدها، بل من القاعدة الاجتماعية التي تُدرك مَن يشبهها، ومَن يبيعها الوهم.
في لقائه الأخير مع جنوده، قدّم حميدتي مشهدًا آخر من مشاهد تحوّله إلى قائد في نظر مجتمعه. تحدث بلغة بسيطة، مليئة بالأمثال المحلية التي يعرفها الهامش وتنبض بروحه. بدا حديثه كمفتاح لوجدان المقاتلين، ومن خلفهم مجتمعاتهم. لم يكن اللقاء مناسبة عسكرية فقط، بل لحظة اعتراف ومصالحة، خاطب فيها أهله وخصومه، وأعاد التأكيد على موقفه الرافض للحرب العبثية، مع الحفاظ على الجاهزية. امتزجت في خطابه إشارات طمأنة موجهة للخارج — كما في حديثه عن مصر — مع رسائل تعبئة داخلية عميقة تعكس وعيًا بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها الهامش. لم يكن المشهد مجرد خطاب حربي، بل إعلانًا رمزيًا عن نوع جديد من القيادة، يستند إلى الاعتراف، واللغة المشتركة، والتمثيل الحقيقي لجماعة طال انتظارها لقائد يتحدث بلسانها، لا باسمها.
لعلّ أزمة القيادة في السودان ليست مجرد فراغ سياسي، أو أزمة كفاءة، أو أزمة تمثيل حقيقي، بل أزمة ثقافية ومجتمعية. نحن بحاجة إلى قائد يجمع بين التعليم والوعي السياسي من جهة، والصدق والشجاعة من جهة أخرى. قائد يرى في تنوع السودان فرصةً لا عبئًا، ويخاطب كل جزء من هذا الوطن بلغته وهمومه.
قد لا يكون حميدتي هو القائد المثالي، وقد لا يكون حمدوك هو القائد الذي نحتاجه، لكن بين هذين النموذجين، نستطيع أن نرى المعضلة كاملة: كيف يُصنع القائد؟ ومَن يحق له أن يقود؟ وهل نستطيع يومًا أن نحب القائد دون خوف، ونتبعه دون أن نشكك في نواياه
إرسال التعليق