لخطاب الذي لم يكن مجرد كلمات: هل حميدتي يعيد رسم حدود القوة؟

المقدمة

منذ اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023، ظل الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش يأخذ أشكالًا متعددة: عسكرية، سياسية، وإعلامية. وبينما تحاول الأطراف فرض واقع جديد على الأرض، بقيت القيادة السياسية غائبة أو مشتتة، خاصة مع تعثّر المسارات التفاوضية، وتزايد التدخلات الإقليمية والدولية.

في خضم هذا المشهد المعقّد، جاء ظهور الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع، في خطاب حاشد أمام جنوده، ليمثّل حدثًا محوريًا أعاد ضبط زوايا المشهد السياسي والعسكري، لا سيما في ظل تغيّب قادة الجيش والكتائب المتطرفة عن المشهد بعد سلسلة من الهزائم والعقوبات الدولية، وتزامنًا مع تحركات دولية تقودها واشنطن ضمن مبادرة رباعية تضم الولايات المتحدة، الإمارات، مصر، والسعودية.

فهل كان هذا الخطاب مجرد استعراض معنوي؟ أم هو إعلان ذو أبعاد سياسية محسوبة يهدف إلى تأكيد أن الدعم السريع طرف رئيسي في المرحلة المقبلة.

فالظهور وسط الآف الجنود، وعلى أرض مفتوحة، وفي تشكيل عسكري منظم، ليس تفصيلًا هامشيًا. ففي السياسة كما في الحرب، الصورة تساوي رسالة. هل أراد حميدتي أن يقول: نحن هنا، منظمون، أقوياء، جاهزون؟ في الوقت الذي يصارع فيه خصومه التشرذم والغياب؟

هذا المقال يحاول قراءة أبعاد الخطاب وتوقيته ومضامينه، وربطها بالسياقات الإقليمية والدولية.

أولًا: التوقيت الذكي في ظل فراغ القيادة وتحرك الخارج

جاء الخطاب عقب سلسلة من الانتصارات النوعية التي حققتها قوات الدعم السريع، أبرزها الضربات المؤثرة بالطيران المسيّر التي استهدفت مواقع استراتيجية للجيش في بورتسودان وأم درمان وعطبرة والأبيض.
كما تلقّى متحرّك “الصياد”، أكبر متحرّك هجومي للجيش، هزائم متتالية في الخوي، الدبيبات، وبابنوسة. ويضم هذا المتحرّك:

الحركات المسلحة

قوات درع البطانة

جهاز الأمن

كتائب البراون

الجيش السوداني

في المقابل، غاب عن المشهد قادة الجيش والكتائب المتطرفة، بفعل الخسائر المتلاحقة والعقوبات الدولية، ما أحدث فراغًا استثمره حميدتي ليُعيد تقديم نفسه كمركز ثقل عسكري وسياسي.

وبالتوازي، كانت هناك تحركات دولية تقودها الولايات المتحدة ضمن مبادرة رباعية (أمريكا – الإمارات – مصر – السعودية) تهدف لتهيئة الأرضية لتسوية سياسية. وفي هذا السياق، بدا الخطاب وكأنه رسالة واضحة بأن الدعم السريع هو الرقم المركزي في أي عملية تفاوضية مقبلة.

ثانيًا: تثبيت صورة القائد المسؤول

خطاب حميدتي لم يكن مجرد رفع للمعنويات، بل تضمّن رسائل واضحة تتعلق بـ:

ضمان حقوق الجنود.

تعويض المصابين.

الوفاء بالاستحقاقات الاقتصادية.

كل ذلك في إطار تقديم الدعم السريع كقوة منضبطة ومنظمة، وليست مجرد تشكيل مسلح عشوائي كما يتناول البعض.

ثالثًا: رسائل سلام

من أهم ملامح الخطاب أيضًا، الحديث الإيجابي تجاه دول الجوار، خاصة مصر. وهو ما يكشف عن رغبة حميدتي في تجاوز حالة العداء الإقليمي التي أوقعت معسكر بورتسودان في عزلة إقليمية ودولية. وخلال خطابه سعى إلى بناء علاقات مصالح جديدة، خصوصًا مع الدول المؤثرة في الملف السوداني.

رابعًا: الانفتاح على الحركات المسلحة

إن الحديث الإيجابي عن الحركات المسلحة في خطاب حميدتي لا يمكن فصله عن دواعي الصراع بين حكومة بورتسودان وهذه الحركات. إذ يبدو أن هذا التوجه يهدف إلى تهيئة واقع سياسي جديد في حال انطلاق مفاوضات، بما يضمن إضعاف الحركات المسلحة وعدم منافستها للقوى المرتبطة بالحكومة على مقاعد السلطة. فبانتهاء مرحلة الحرب، تكون الشراكة بين حكومة بورتسودان والحركات المسلحة قد فقدت مبرراتها، وانتهى بذلك تحالف الضرورة بينهما.

حديث حميدتي بإيجابية عن الحركات المسلحة، فيما بدا كأنه إشارة إلى إعادة تشكيل التحالفات السياسية والعسكرية. هذا الخطاب يوحي برغبة في بناء تحالف وطني عابر للاستقطاب التقليدي، يضم قوى ما بعد الثورة وقوى الهامش.

خامسًا: الاستعداد للتفاوض من موقع المنتصر

جاءت لغة الخطاب وكأنها تهيئة نفسية وسياسية للتفاوض، من موقع القائد المنتصر.
تزامن ذلك مع ضعف الطرف المقابل (الجيش وقوى النظام السابق) وغيابهم عن المشهد الإعلامي والميداني، ما جعل من الخطاب تموضعًا ذكيًا قبيل أي حراك دولي نحو التسوية.

الخاتمة

خطاب حميدتي لم يكن مجرد حضور إعلامي، بل إعلان سياسي مدروس، وجاء في لحظة ضعف وهشاشة خصومه، ليقول إنه موجود، ومتماسك، ومستعد للمرحلة القادمة.

في ظل غياب قيادة الجيش، وتآكل تحالفاته، وضغط المجتمع الدولي، يبدو حميدتي في هذا الخطاب وكأنه يرسم خطوط ما بعد الحرب، ويُجهّز نفسه ليكون رقمًا صعبًا في ساحة التفاوض وصناعة مستقبل

إرسال التعليق

لقد فاتك