عبيد الجندية العسكرية السودانية
بدأت العبودية في السودان قبل نشوء الدولة الحديثة، واستمرت حتى قبيل خروج المستعمر في 1 يناير 1956. تشكّلت خلال هذه الفترات أشكال متعددة من العبودية، ولعلّ العبودية في السودان تستحق دراسة مقارنة مع مثيلتها في أمريكا، التي أُلغيت عام 1865 بموجب التعديل الثالث عشر لدستور الولايات المتحدة الأمريكية. كانت العبودية الأمريكية تنقسم إلى قسمين: الأول يُعرف بعبيد المنازل، وكانت حياتهم تقتصر على الأشغال الخفيفة مثل الطهي والغسيل؛ والثاني هم عبيد الحقول الذين كانوا يُجبرون على القيام بالأعمال القاسية مثل الزراعة والغزل في الحقول.
لكن عند النظر إلى تاريخ الإلغاء في الولايات المتحدة، نجد أن السودان في تلك الفترة كان لا يزال يرزح تحت نير العبودية، وقد شكّل نموذجاً ثالثاً مختلفاً عن النموذجين الأمريكيين، وهو “عبيد الجندية”. نعم، هو الوصف الطبيعي: ليسوا جنوداً أحراراً بل عبيداً في زي عسكري.
تاريخياً، كان أحد مسوّغات دخول محمد علي باشا إلى السودان هو البحث عن رجال يمكن استخدامهم في الجندية. (ولا أعرف لماذا تحتفي الدولة السودانية بهذا الوصف في مناهجها التعليمية، رغم أنه في الأصل يُشير إلى عبودية الشخصية السودانية). لم يكن الهدف تشكيل قوة بشرية تساهم في بناء الحضارة أو الإمبراطورية العثمانية، بل كان الهدف تجنيدهم كعبيد يعملون كـ”بُندُقجية” في دولة الخديوي.
تشير روايات الأطباء اليونانيين الذين رافقوا حملات “صيد العبيد” (القنص) من جبال الأنقسنا أو جبال تقلي أو منطقة أعالي النيل الأبيض، إلى أن جيش الخديوي كان يتكوّن من ثلاث فئات:
• الأولى: النخبة من الضباط، وكانوا يمتطون الخيول، وسنعود لذكرهم في مقال مفصّل لاحقاً.
• الثانية: القبائل المتحالفة مع الحاكم، مثل قبيلة الشايقية، حيث كان الجندي منهم يرافقه أخوه في سبيل اصطياد بعض العبيد ونقلهم إلى مناطقهم.
• الثالثة: الجنود المشاة، وهم في الأصل عبيد تم اصطيادهم في حملات سابقة، وكانوا ينتمون في الغالب إلى القبائل الزنجية.
كان “الجندي العبد” يُختار مع تعرّضه للخصي، ليكون ضمن صفوف جيش الدولة الخديوية، ويتلقى راتباً زهيداً مقابل ما يقوم به من مهام حربية. وكان يُستخدم إما في حملات الصيد، أو في قمع الاحتجاجات التي ينفّذها السودانيون ضد ظلم السلطان أو تردّي الأوضاع المعيشية.
إن الدولة العثمانية، في غزوها للسودان، لم تكن تسعى لتطوير البلد أو بناء بنيته التحتية، بل لسرقة موارده. وخلال تلك المدة، لم تشهد البلاد أي نهضة حقيقية رغم تسارع الحداثة في المدن المصرية وازدهارها اقتصادياً. النمط الذي أُنشئ في السودان حينها كان نمط “الحاميات العسكرية”، وقد مثّل نموذج الدولة العسكرية المركزية. وأول حامية تم بناؤها كانت في منطقة الباقير.
ومن ينظر إلى هذا الماضي، قد يتساءل: ما الذي تغيّر؟
إن عجلة السودان ما زالت تدور في حلقة ما قبل الاستقلال، لا يتغيّر فيها سوى اسم النموذج، بينما الفعل هو ذاته. فاليوم هناك “مورال فوق” وغداً “كبرون فوق”، لكن النهج واحد: عبودي.
كسر هذا النمط لا يكون إلا بهدم نمط التفكير والعقيدة العسكرية التي بُني عليها هذا الجيش، وتأسيس نموذج جديد بعقيدة مختلفة تسمح بتوجيه بنادق الآلة العسكرية نحو الأعداء، لا المواطنين.
ملاحظة: الأحداث التاريخية وأسماء القبائل مأخوذة من كتاب “على تخوم العالم الإسلامي”
إرسال التعليق