تحت الرماد | الرد الذي لم يُرِد أن يُصيب: بين نيران الرمز وحدود الجغرافيا

في الثالث والعشرين من يونيو، أطلقت إيران موجة صاروخية استهدفت قواعد أمريكية في قطر والعراق، رداً على تدمير منشآت تخصيب اليورانيوم داخل أراضيها. لم تسفر الضربات عن إصابات، ولم تغيّر من معادلات السيطرة الجوية. لكنها فتحت باباً لمعادلة تحليلية أكثر تعقيداً، لا يمكن فهمها إلا في التقاطع بين الرمزي والمادي، بين الفعل العسكري والوظيفة السياسية للسلوك.

على المستوى الرمزي، بدا الهجوم الإيراني محاولة مدروسة لإعادة تثبيت صورتها كقوة ترد، ولكن دون أن تُفجّر حرباً شاملة. الرسالة ليست فقط للولايات المتحدة، بل لحلفاء إيران وخصومها: أن الرد ممكن، لكن مضبوط. تصريح طهران بأن “قطر دولة صديقة لا تُستهدف”، ترافق مع تقارير تؤكد أن الدوحة أُخطرت مسبقًا، وأن المجال الجوي أغلق قبل لحظات من سقوط الصواريخ. هذه اللغة تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ”الرد المؤدى دون إيذاء” – أي فعل رمزي يؤدي وظيفة سياسية، لكنه لا يسعى إلى أثر قتالي مباشر.

لكن في البعد المادي، لا يمكن فصل هذا الرد عن الجغرافيا العسكرية والتحالفات الإقليمية. فاستهداف قاعدة العديد، المركز العملياتي الرئيسي للقيادة الأمريكية في الشرق الأوسط، كان رسالة مباشرة في موقعها، لا فقط في رمزيتها. القواعد الأمريكية في قطر والعراق ليست مواقع محايدة، بل أعمدة لمنظومة ردع مضادة لإيران، ترتبط بعمليات في الخليج، وسوريا، والعراق، وشرق المتوسط. إن توجيه الصواريخ نحو هذه القواعد، حتى إن كانت محددة النطاق ومضبوطة التأثير، هو اعتراف ميداني بأن ساحة الاشتباك لا تقتصر على إسرائيل أو الداخل الإيراني، بل تمتد حيث توجد أنظمة القيادة العسكرية الغربية.

ثمّة واقعية جيوسياسية واضحة في هذا التصعيد: إيران تعرف تماماً أن الرد على إسرائيل وحدها لم يعد كافياً لترميم توازن الردع. كما أن الهجوم لم يكن موجّهاً إلى الدول الخليجية بقدر ما هو موجه إلى النظام الأمني الذي تحتضنه. في هذا السياق، تلعب قطر دوراً مركّباً: هي حليف عسكري وثيق لواشنطن، لكنها تحتفظ بقنوات مفتوحة مع طهران. التنسيق الذي سبق الضربة، كما أظهرته تسريبات وتقارير دولية، ليس دليلاً على ضعف الموقف القطري، بل على قدرته على إدارة تضارب الأدوار بدقة جراحية.

الخطورة هنا لا تكمن في عدد الصواريخ أو نتائجها المباشرة، بل في ما تكشفه من تآكل حدود الفعل العسكري التقليدي. حين تصبح القواعد أهدافًا رمزية، وتُطلق الصواريخ بترتيبات أمنية مسبقة، فإننا أمام نموذج جديد من الاشتباك، لا يُقاس بنتائج القصف، بل بوظائفه ضمن بنية الردع الأوسع.

تحت الرماد، تتشكل معادلة سياسية جديدة: صراع قابل للاشتعال دائمًا، لكنه مُصمم بعناية ليبقى تحت سقف التفجير. هكذا تُدار الحروب الحديثة بين القوى الإقليمية، لا لتُكسب الأرض، بل لتُكسب النقاط في خريطة النفوذ المتحركة.

إرسال التعليق

لقد فاتك