العقل الإجرامي : هندسة الموت و الإبادة
الدولة، في معناها البسيط والطبيعي، هي كيان يُفترض أن يسعى لرفاهية المواطنين، وتلبية احتياجاتهم، وتنظيم الشأن العام بناءً على عقد اجتماعي متفق عليه بينها وبين الشعب. غير أن هذا الكيان، في بعض اللحظات المظلمة من التاريخ، يتحوّل إلى عقل إجرامي يصنع الموت وينشر الإبادة.
لقد تأسست بعض الدول، أو أعيد تشكيلها، على أنقاض شعوب أُبيدت أو قُمعت، عبر هندسة صراعات داخلية مقصودة، يتم فيها اللعب على تناقضات اجتماعية، واستغلال هشاشة البُنى الثقافية والقبلية. هذا “العقل الإجرامي” لا يتوقف عن افتعال الحروب، حتى في لحظات الأمل النادرة التي تلوح في الأفق، كما حدث في محادثات جدة والمنامة التي كانت تُبشر بتسوية سياسية تعيد الدولة إلى شعبها، غير أن هذا العقل أفشلها، لتذهب تلك الجهود هباءً، ويُمدَّد أمد الحرب.
يتخفى هذا العقل ويتلون كالحرباء: تارةً باسم الدين، وتارةً باسم العروبة، وأخرى باسم الإثنية. وفي سبيل بقائه، لا يتورع عن استخدام أقذر الوسائل: من السلاح الكيماوي، إلى قصف المواطنين بالقنابل. إنه عقل شعاره: “تُراق كل الدماء”.
تُظهر أحداث السنوات الأخيرة كيف استمر هذا العقل في تخريب المرحلة التي تلت الثورة، وصولًا إلى الحرب الشاملة في 15 أبريل. إنه عقل مريض، منحرف عن الفطرة الإنسانية السوية. تلك هي “فتن الأربع سنوات” التي أشار إليها بيت شعر رقيق السيف:
“هي فتنُ الأربعِ، والنصلُ بها / لا يُبقي من العدل إلا وهَنا”
هناك أمثلة صارخة على هذه “الهندسة الإجرامية”:
- الشرق – بورتسودان:
افتُعلت أزمة بين قبيلتي البني عامر والنوبة لتقويض المرحلة الانتقالية. ويُقال إن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي كان موجودًا في بورتسودان أثناء وقوع الأحداث، حيث كان يعتزم إعلان تبعية الشرق لإريتريا، لكن تم اعتقاله من قِبل قوات الدعم السريع. تشير تقارير إلى أن هذا المخطط تم تدبيره من داخل مدينة حلفا، بواسطة الجناح العسكري للحركة الإسلامية، مستغلين عناصر من الإدارات الأهلية المتحالفة معهم. واليوم، نرى ميليشيات تُدرَّب في إريتريا للانخراط في قتل السودانيين. - الغرب – الجنينة وكرنوي:
في اجتماع للقيادة العامة، صرح قائد الدعم السريع قائلاً: “سوف تُحرق طاولة هذا الاجتماع كما احترقت كرنوي”. هذا التصريح يكشف وجود منهج متعمد لتدمير المدن السودانية. وتوجد وحدة كاملة في الاستخبارات العسكرية تُدعى “وحدة القبائل”، مهمتها زرع الفتن واستغلال التوترات القبلية لخلق عدم استقرار دائم في أطراف البلاد. - الجنوب – النيل الأزرق:
اندلع صراع بين قبائل الهمج والهوسا، استُغلت فيه البُنى الطائفية والدينية. أحد العاملين في لجنة التحقيق كشف أن الاستخبارات العسكرية كانت ترسل تقارير من داخل المنظمات المدنية لتأجيج هذا الصراع، الذي اتضح لاحقًا أنه بُني على أسس دينية مفخخة.
أتذكر هنا إحدى الناجيات من مجازر الجنينة، وقد خاطبت قائد قوات الدعم السريع قائلة:
“يقتلون ويغتصبون ويشرّدوننا من أرضنا، ليه؟”
كانت تشكو له ظلم الأنظمة المتعاقبة تجاه مجتمعها، وافتعال الصراعات عبر أذرع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
إنه نظام يتحالف مع الأجنبي لقتل مواطنيه. كل هذه الصراعات ليست عشوائية، بل مُخطط لها، ومُهندسة بإتقان داخل أجهزة الدولة. إنها دولة تقتل شعبها. والسؤال الذي يجب أن يُطرح الآن بوضوح:
ما الهدف من تأجيج الصراعات الإثنية بين القبائل؟ ومن المستفيد من هذا الدم المراق، ومن مصلحة من أن يُقتل بعضنا البعض كشعوب مهمّشة؟
إرسال التعليق