من الشراكة إلى التصفية: مأزق الحركات المسلحة بعد جوبا
حين وُقّع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020، شكّل لحظة تسوية مؤقتة بين الدولة السودانية والحركات المسلحة، عبر ترتيبات تقاسم للسلطة والموارد وإعادة هيكلة الجيش. غير أن هذه المعادلة لم تكن متجذرة في بنية مادية مستدامة، بل قامت على توازن هش من شرعيات مؤقتة وتفاهمات بينية. واليوم، يتفكك هذا الاتفاق على مستويين متداخلين: مادي ورمزي.
فعلى المستوى الرمزي، تُظهر تصريحات مالك عقار ومني أركو مناوي انهياراً واضحاً في الرابطة السياسية التي أُنتجت عبر الاتفاق. عقار يهدد بـ”تقرير المصير”، ومناوي يتحدث عن “اغتيال معنوي” و”حرق للمراكب”. هذه اللغة تعكس أزمة ثقة عميقة، ولكنها في الوقت ذاته تعبّر عن محاولة يائسة لإعادة بناء الشرعية عبر أدوات خطابية بعدما فُقدت وسائل النفوذ الواقعي. فالخطاب هنا ليس مجرّد موقف سياسي، بل هو “أداء رمزي لتعويض الفقدان المادي”.
لكن هذا الانهيار الرمزي لا يمكن فصله عن السياق المادي الذي أنتجه. فخلال السنتين الماضيتين، خسر قادة جوبا كثيراً من قواعدهم الميدانية. قوات مناوي انسحبت من مواقعها في دارفور لصالح الدعم السريع، بينما تراجعت قدرة عقار على حفظ التماسك الداخلي في النيل الأزرق. أكثر من ذلك، تقلصت قدرة هذه الحركات على تحصيل الدعم المالي واللوجستي من حلفائها التقليديين، في ظل إعادة اصطفاف إقليمي وتحفظ دولي عن التعاطي مع الأجسام غير الميدانية. هذا التآكل في القدرة على “فرض الوجود” دفعهم إلى مضاعفة الخطاب التحذيري كتعويض.
سلطات بورتسودان، من ناحيتها، تتحرك على أساس قراءة واقعية للمشهد: أن الحركات فقدت ما يجعلها ضرورية، سواء ميدانياً أو شعبياً أو إقليمياً. ومن ثم، بدأت بإعادة هندسة التوازن السياسي داخل مؤسسات الحكم عبر تسييل اتفاق جوبا، أي تحويله من وثيقة ملزمة إلى نص بلا قوة تنفيذية. وقد تجلى ذلك في تقليص نسب التمثيل، وإعادة تشكيل الحكومة دون مشاورات مع الأطراف الموقعة، واستبعاد عدد من الكوادر المحسوبة على الحركات من مفاصل الدولة. هذه الإجراءات تُقرأ كمحاولة لإنتاج “دولة ما بعد الاتفاق”، تُبنى على القوة الواقعية لا على وثائق الشراكة.
وفي هذا السياق، يشبه تآكل جوبا المسار الذي عرفته اتفاقات مثل نيفاشا (2005) في السودان ذاته، أو اتفاق باماكو (2015) في مالي، حيث تحوّلت الاتفاقات إلى أدوات عبور مرحلية انتهى مفعولها بمجرد تغيّر السياق الجيوسياسي والميداني. الحركات المسلحة في السودان الآن تواجه أزمة ثلاثية: فقدان القاعدة الميدانية، تقهقر مصادر التمويل، وتراجع أهميتها التفاوضية. ومن هنا فإن التهديدات بالتصعيد أو العودة إلى السلاح لا تمثل خطرًا فعليًا على الأرض، لكنها تحمل خطراً رمزياً على السردية التي نشأ عليها الاتفاق.
لكن الأهم هو أن السودان الآن يتحرك فعليًا نحو لحظة “ما بعد الاتفاق” دون إعلان ذلك رسمياً. فالحكومة المؤقتة في بورتسودان تبني سلطتها وفق منطق احتكار القرار، لا وفق التوافق مع الحركات. ومع استمرار الحرب بين الجيش والدعم السريع، فقدَ اتفاق جوبا مركزه كآلية للضبط أو كجزء من الحل الشامل. بل تحول إلى عامل إضافي للتشظي، عبر إبقاء أطرافه في حالة “نصف شراكة”، غير قادرة على التأثير ولكن غير قابلة للتجاهل.
هكذا إذن، يتفكك اتفاق جوبا كعقد سياسي، لأنه لم يستند إلى بنية مادية تضمن استمراره. ومع غياب الضمانات الدولية، وتراجع الحاجة إلى الشركاء الأصليين، صار الاتفاق أقرب إلى وثيقة أرشيفية، يُستدعى اسمها حين يلزم، ولكن دون أثر فعلي في مسار الدولة. وهذا ما يجعل من المرحلة الحالية نقطة تحول مفصلية: إما أن يعاد إنتاج العلاقة بين الدولة والمكونات المسلحة ضمن منطق جديد يستند إلى الوقائع، أو أن يستمر التفكك تدريجيًا نحو نظام سياسي بلا مرجعيات تعاقدية.
في كل الأحوال، التصعيد الخطابي من قادة الحركات، والإجراءات الإدارية من بورتسودان، هما وجهان لعملية واحدة: إعلان غير رسمي عن نهاية صلاحية اتفاق جوبا، وفتح المجال أمام هندسة سياسية جديدة قد تتشكل بلا مشاركة من صنعوا السلام بالأمس.
إرسال التعليق