حميدتي في المواجهة المباشرة: خطاب القوة والاستحقاق السياسي للدعم السريع
في خطاب ميداني نادر، ظهر محمد حمدان دقلو “حميدتي” بين صفوف قواته في إحدى مناطق دارفور، ليؤكد مجدداً على أن المشهد السوداني لا يُدار من غرف التفاوض، بل من الميدان نفسه. هذا الظهور، الذي جاء مصحوباً بخطاب احتوى على إشارات إقليمية وعسكرية وعقائدية معاً، يُعيد طرح سؤال مركزي حول دور الدعم السريع: هل ما زال يُقاتل من أجل موقع داخل الدولة؟ أم بات يؤسس لحالة سياسية قائمة بذاتها خارج الأطر الكلاسيكية؟
الخطاب تضمن ثلاث طبقات واضحة: أولها إعادة تثبيت للشرعية العسكرية من قلب الميدان، في لحظة تحوّل فيها القوى المسلحة إلى كيانات تفاوضية لا محض أدوات ضغط. حميدتي لا يقدّم نفسه كقائد مليشياوي بل كممثل لقوة اجتماعية – عسكرية راسخة، ذات بنية، وتاريخ، ورؤية. الإشارة إلى ذكرى تأسيس التشكيل كمحطة رمزية في مسار “العدالة والتحرير”، واستحضار نموذج “بدر الكبرى”، ليسا مجرد استدعاءات ثقافية، بل أدوات تأطير عقائدي تُنتج سردية مقاتلة تستمد شرعيتها من المقاومة لا من التعيين.
الطبقة الثانية من الخطاب جاءت عبر الرسالة الإقليمية الضمنية: “لسنا خصماً لكم، بل عامل استقرار”. هذا التصريح الموجّه بذكاء إلى دول الجوار، يعكس تطوراً في خطاب الدعم السريع، من تموقع داخلي صرف إلى طموح لإعادة تعريف ذاته كفاعل أمني إقليمي. عبر تقديم نفسه كحاجز أمام الإرهاب والتهريب، يسعى حميدتي لنقل صورة تفيد بأن السيطرة الجغرافية ليست عدواناً على النظام الإقليمي، بل محاولة لإنشاء واقع حدودي منظم يخدم مصالح الجميع، بما في ذلك الدول التي لطالما توجست من تمدد الدعم السريع.
أما الطبقة الثالثة، فهي تكتيكية – تفاوضية بامتياز. الإشارة إلى الاستعداد للحوار مع أطراف محددة، وتبرئة طرف إقليمي بعينه من تصعيد التوتر، يعكسان محاولة واضحة لإعادة تشكيل موقع الدعم السريع ضمن الخريطة الإقليمية والدولية. إنه خطاب يهيئ المساحة لمفاوضات مستقبلية ليس بصفته فصيلاً مسلحاً، بل كجزء من معادلة القوة التي لا يمكن تجاوزها في أي تسوية. إنه إعلان سياسي غير مباشر بأن من يملك السيطرة على الأرض، يملك شرعية الوجود في طاولة القرار.
لكن الأهم من ذلك، هو أن الخطاب لم يحمل أي مؤشرات على القبول بتسوية وشيكة أو تهدئة شاملة. بل على العكس، حمل نبرة تعبئة عالية، وترسيخ لفكرة أن المعركة لم تُحسم بعد. وهذا ما يُرجّح أن حميدتي يرى في اللحظة الحالية لحظة استثمار في الزمن، لا وقتاً للتنازل، مستفيداً من التفكك المؤسسي للطرف الآخر، ومن التوازن الميداني الذي يُبقي العاصمة ومحيطها خارج السيطرة الكاملة لأي طرف.
في النهاية، لا يمكن فصل هذا الخطاب عن تطورات مسار الحرب الطويلة، ولا عن بنية النظام السوداني ما بعد الدولة. فكل ظهور علني لحميدتي هو تذكير بأن الدعم السريع لم يعد قوة ظل، بل كيان تفاوضي، رمزي، وميداني. هذا الخطاب ليس تصريحاً إعلامياً، بل إعلان جيوسياسي يؤسس لوضع دائم — سواء سُمّي ذلك تسوية، أو واقعاً ما بعد الدولة.
إرسال التعليق