أيديولوجيا “الولايات المستقرة”: حيث صناعة القادة من الخرائط لا من الشعوب

أيديولوجيا “الولايات المستقرة”: حيث صناعة القادة من الخرائط لا من الشعوب

لطالما ارتبط مفهوم القيادة في السودان، لا بالكفاءة أو الرؤية، بل بالموقع الجغرافي الذي وُلد فيه الإنسان. فهناك سردية تُبنى في الخفاء، وتُمرر في الخطاب الرسمي وغير الرسمي، ترى أن القادة الحقيقيين، الذين يستطيعون حمل مسؤولية الدولة، لا يأتون إلا من “الولايات المستقرة”. ويُقصد بذلك المناطق التي لم تعرف النزاعات المسلحة أو الحركات الثورية.

هذا التمييز الجغرافي لم يكن عفويًا أو بريئًا، بل هو جزء من أيديولوجيا مقصودة، تُنتج عبرها السلطة شرعيتها وتقصي بها الآخر. يتم تصوير أبناء المناطق المنكوبة بالحروب والتهميش وكأنهم غير مؤهلين للقيادة، أو أن نضالهم المسلح لا يمكن أن يتحول إلى مشروع وطني شامل، فقط لأنه وُلد من رحم المعاناة الإقليمية.

هذه الصورة النمطية تُنتَج بمهارة، وتُكرّس بشكل قوي في الإعلام والتعليم والسياسة، وتمنح الأفضلية الأخلاقية والتفوّق المعنوي لمناطق على حساب أخرى، وتفتح الطريق لاحتكار السلطة والموارد في يد نخبة جغرافية محددة. في المقابل، تُختزل المناطق المهمشة في صورة الفوضى والتخلف والعنف، وكأنها غير قادرة على إنتاج وعي سياسي ناضج أو مشروع نهضوي متكامل. وهكذا يتم استبعادها من دوائر التأثير، وتُمنع من الاقتراب من مراكز القرار، ليس لأنها لا تمتلك المؤهلات، بل لأن النظام ذاته بُني على هذا التفاوت ويقوم على تقوية هذه الفجوة وتكريسها.

هذه الأيديولوجيا لا تهدف فقط إلى تنظيم السلطة، بل إلى شرعنة قمعها. فبدلًا من معالجة أسباب النزاع الحقيقي، كالتهميش السياسي والاقتصادي والثقافي، تُحوّل النخبة المهيمنة القضية إلى مسألة أمنية أو مجتمعية، تُلقى فيها التُّهم على مناطق بعينها، ويُبرر بها استخدام القوة والعنف والتجريد من الحقوق. بل بلغ الأمر حد استخدام أدوات الدولة لمنع استخراج الجوازات، أو إسقاط الجنسية، أو منع التوثيق التعليمي، وكأن الهدف ليس حماية الدولة، بل هندسة سكانها وفق مقاييس المركز.

كل هذا لا يصنع وطنًا، بل خريطة من الشك والضغينة. لم تكن نتائج هذا الخطاب الأيديولوجي مجرد نظريات، بل تمثلت في ثلاث حروب مدمّرة، مزّقت النسيج الاجتماعي، وعمّقت الانقسام بين القبائل والمناطق، حتى صار السودان ساحة لصراعات مصطنعة تغذيها النخبة بدلًا من أن تطفئها. كلما ازداد التفاوت، ازداد الانفجار القادم، وكلما رُوّج للكراهية، ضاق الطريق نحو الوحدة.

لكن رغم كل ذلك، لا يزال هناك مخرج واحد: السلام. السلام بوصفه مشروعًا لا يُميز بين جغرافيا وأخرى، بل يؤمن أن السودان لن ينهض إلا إذا جلس الجميع على الطاولة ذاتها، بوصفهم شركاء متساوين في الألم والمصير. إن الدماء التي سالت لن تعود، والأرواح التي زُهقت لا تُعوّض، لكن ما يمكن إنقاذه هو المستقبل.

لذلك، لا تستسلموا للخطابات التي تدعو لمزيد من الانقسام، ولا تصدقوا أن التهميش قَدَر، أو أن العنف هو الطريق الوحيد. نحن نستحق وطنًا لا يُدار بالأيديولوجيا، بل بالعدالة

إرسال التعليق