السودان بين الجغرافيا و الهوية ..من الجذور إلى أبريل المظلم

يقع السودان عند مفترق طرق التاريخ والجغرافيا، نقطة التقاء مكونات متعددة، كلٌّ يحمل هويته وتاريخه، لكن هذا اللقاء لم يُفضِ إلى وحدة حقيقية. الأزمة السودانية ليست مجرد صراع على السلطة أو نزاعٍ مسلح عابر، بل هي أزمة وجودية تعكس مأزق هوية الدولة السودانية ذاتها.

هذه الهوية لم تُبنَ على أسس متينة، بل تشكّلت عبر عقود من التهميش الممنهج والتجاهل المقصود لمكونات البلاد المتعددة، في ظل نظام مركزي استبدادي اختزل السودان في مركز واحد، لا يعترف بالتعدد إلا بوصفه تهديدًا لاستقراره. سياسة مركزية أمعنت في إنكار التنوع، وأجّجت نار الانقسامات التي تعصف بالبلاد حتى اليوم.

الأرض التي تجمعنا ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي حاضنة لصراعات تاريخية واجتماعية عميقة. النيل الذي يربط شمال السودان بجنوبه، الصحراء التي تشكّل حدودًا صارمة وموتية، والمدن التي تكافح لتسترد نفسها وسط الخراب — كلّ ذلك لم يكن مكانًا للحياة فحسب، بل ميدانًا لتفاعلات معقّدة أجهضت أي مشروع وطني جامع.

التاريخ السوداني مليء باللحظات الفارقة التي أرّخت لصراعات الهوية وتداخلاتها: من الاستعمار البريطاني–المصري الذي أسّس الدولة على مبدأ تقسيم “حكم المركز وهامش الأطراف”، إلى حروب الجنوب التي كشفت هشاشة الدولة المركزية، مرورًا بصراعات دارفور وكردفان والنيل الأزرق، حيث أُقصيت الجماعات وحُرمت من أبسط الحقوق.

في كل هذه المراحل، ظل خطاب السلطة الرسمية يعكس رؤيتها الأحادية، التي تعاني من عقدة مركزية عميقة، وتتناسى واقع السودان المتعدد، الذي لا يحتمل صيغة واحدة لا تستوعب الجميع.

كان أبريل 2023 ذروة تراكمات هذا التاريخ المأزوم؛ إذ لم يكن مجرد انقلاب عسكري تقليدي، بل نهاية لعصر حلم الدولة المدنية، نهاية لإمكانية بناء هوية وطنية تشمل الجميع. أعاد الانقلاب إنتاج الانقسام والتهميش بقوة السلاح، وأطاح بأي أمل في العيش تحت سقف دولة مدنية ديمقراطية.

في قلب هذا الخراب، يقف المواطن السوداني المنسي، المتروك في هامش الوجود، وحيدًا في مواجهة آلة القمع التي لا ترحم. أصواته المكبوتة تصرخ في صمت، لكنها تصطدم بأزيز الطائرات المسيّرة وأزيز الرصاص. ورغم كل هذا، لم يمت الأمل؛ فالأرض التي تنزف دماء أبنائها تحوي في طيّاتها بذور الانعتاق، وصوت المهمّشين الذي يرفض النسيان.

“الجمهورية السوداء” هو صدى هذا التاريخ المؤلم، ونقطة انطلاق ضرورية نحو بناء السودان الذي يحلم به كل أبنائه: وطن الحرية، والتنمية، والعدالة

إرسال التعليق