ما بعد نهاية التاريخ (٢)

“ما بعد نهاية التاريخ”(٢)

في الجزء الأول، حاولنا أن نُظهر كيف أن نهاية التاريخ لم تكن لحظة ختامٍ حقيقي، بل مرحلة مؤقتة في مسار طويل من التحولات العالمية. فعلى الرغم من ما بدا وكأنه انتصار نهائي للليبرالية الغربية بعد الحرب الباردة، فإن الديناميات العميقة التي تُحرّك التاريخ لم تتوقف، بل بدأت تتخذ أشكالًا جديدة تُهدد بإزاحة النموذج المنتصر من مركزه.

لكن إذا أردنا أن نفهم هذه التحولات على نحو دقيق، لا يكفي أن نتتبع صعود السرديات الكبرى أو تراجعها، بل ينبغي أن نعود إلى شروط النشأة نفسها كيف نشأت القوى العالمية؟ وبأي ثمن؟ وهل صعد الغرب فقط بفعل مؤسساته وقيمه أم أن وراء التقدم سردية أخرى أكثر تعقيدًا، وأكثر ظلمًا أيضًا؟

من هنا تبدأ هذه القراءة الثانية، حيث ننتقل من نقد السرد إلى نقد البنية، ومن تحليل الرموز إلى تحليل الموارد والقوانين والسياسات التي صنعت “النجاح” الغربي على حساب الآخر.

الفروقات التاريخية

حين نتأمل الفروقات البنيوية في مسارات تطور الدول، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن ما يُعرف اليوم بالنجاح الغربي لم يكن حصيلةً لتفوق أخلاقي أو عقلاني مجرد، بل نتيجةً لتاريخ طويل من المراكمة غير المتكافئة للثروة والمعرفة والسلطة. لقد ارتبط صعود أوروبا، ثم الولايات المتحدة، بجملة من الشروط التاريخية لم تكن متاحة لغيرها، ليس فقط عبر مؤسسات الدولة الحديثة، بل من خلال آليات السيطرة الخارجية التي شملت الاستعمار، وتجارة العبيد، وإخضاع الشعوب، والتحكم في الموارد والأسواق.

الاقتصادي توماس بيكيتي يلفت الانتباه، في تحليلاته، إلى أن النظام الرأسمالي الذي تأسس في الغرب لم يكن في جوهره مجرد نظام إنتاج، بل منظومة توزيع غير متوازن للثروة، سُمِح لها بالازدهار بفضل السيطرة على أطراف العالم. فبينما كانت بعض الأمم تُنهي بناء سكك الحديد، كانت أخرى تُفرَغ من معادنها وأيديها العاملة. وبذلك، لم يكن التقدم الغربي ممكنًا دون نزعٍ موازٍ لحق الآخرين في التقدم.

لكن الاستعمار وحده لا يفسّر كل شيء. فكما يُبيّن الاقتصادي ها جون تشانغ في كتابه ركل السلم، لم يكن صعود الدول الغربية نتيجةً لتطبيق الأسواق الحرة بل العكس تمامًا لقد تبنّت هذه الدول، في لحظات نموها الحاسمة، سياسات حمائية صارمة، فرضت الرسوم الجمركية المرتفعة، ودعمت صناعاتها الناشئة، ومنعت المنافسة الأجنبية، حتى تمكنت من بناء قاعدة صناعية متينة. وفقط بعد أن استقرت في القمة، بدأت تُروّج لليبرالية الاقتصادية، وتطالب الدول النامية بعدم استخدام نفس الوسائل التي استخدمتها هي أي أنها ركلت السلم بعد أن صعدت عليه.

وما تزال هذه الآليات فاعلة حتى اليوم. فعندما بدأت الصين تُحقق معدلات نمو صناعي تهدد الحصة السوقية الأميركية، لجأت واشنطن إلى قوانين مكافحة الإغراق، وفرضت رسومًا جمركية مرتفعة على واردات الفولاذ والألمنيوم الصينية، بذريعة حماية الصناعات المحلية. وهكذا تُمارَس الليبرالية بوصفها أداة ظرفية، تُرفع متى كان الأمر مريحًا، وتُعلّق حين تصبح المنافسة حقيقية.

أما الصين، فقد اختارت طريقًا مختلفًا. لم تكن دولة استعمارية، ولم تُصدر جيوشها أو تُقيم مستعمرات في الخارج. وما حققته من نمو، خصوصًا منذ نهاية السبعينات، جاء من إصلاح داخلي مدروس، حافظ على دور الدولة في التوجيه الاقتصادي، واستثمر في الإنسان والبنية التحتية والإنتاج الصناعي، دون أن تُسوّق نفسها باعتبارها نموذجًا كونيًا أو مخلصًا أخلاقيًا للعالم.

والفارق هنا ليس فقط في الوسائل، بل في المنطلق. فبينما قام النمو الغربي على استغلال الآخر، سعت الصين إلى إعادة تأهيل ذاتها عبر سياسات وطنية مغلقة نسبيًا، لكنها منفتحة على فرص السوق العالمي. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار المشروع الصيني بديلًا إنسانيًا خالصًا، بقدر ما هو مرحلة جديدة في إعادة تشكيل المركز العالمي، لا في تفكيكه.

في ضوء هذه المعطيات، لا يبدو أن تراجع النموذج الغربي سيفضي تلقائيًا إلى عالم تعددي أكثر عدالة. بل ما يتكشّف هو أن العالم لا يتحرر من الأحادية، بل يعيد إنتاجها تحت راية جديدة. والسؤال الحقيقي هنا ليس فقط من يقود؟ بل بأي منطق تتم القيادة

فهل يمكن لمراكز القوة الجديدة أن تتبنى تصورًا عالميًا أقل احتكارًا للسرد والثروة؟
وهل يمكن أن تتحول تعددية القوى إلى تعددية في القيم والرؤى والنماذج، لا مجرد دوران جديد في لعبة السيطرة؟

ربما لم تكن نهاية التاريخ سوى وقفة قصيرة في سيرورة لم تكتمل بعد، وحين نستعيد شروط النشأة ونضعها في قلب التحليل، يتضح أن المستقبل لا يُصاغ فقط من خلال الأفكار، بل أيضًا من خلال من امتلك الحق في الصعود، ومن مُنع منه.

إرسال التعليق