من يُعيد تعريف السودان؟بين سؤال الدولة و مشروع التأسيس

ما يدور في السودان اليوم لم يَعُد مجرد أزمة سياسية أو صراع قوى حول النفوذ والسلطة؛ نحن بإزاء تحوّل عميق يُهدد بقاء الدولة ذاتها، ليس في شكلها الإداري فحسب، بل في معناها الوجودي، وهويتها الأخلاقية، وتركيبتها الاجتماعية التي جرى استنزافها لعقود.

لقد ورث السودان، منذ استقلاله عام 1956، دولةً بلا مشروع، وسلطةً بلا خيال، وهويةً مأزومة تتأرجح بين المركزية القهرية والإنكار المزمن لتعدديته. وعلى مدى أكثر من ستة عقود، ظلّت الأنظمة المتعاقبة – مدنية كانت أم عسكرية – تعيد إنتاج المفارقة نفسها: دولة بلا عقد، ووطن بلا مواطنة.

وكانت ذروة هذا المسار الانحداري مع صعود المشروع الإخواني في عام 1989، الذي لم يكتفِ باحتكار السلطة، بل أعاد هندسة الدولة على مقاس أيديولوجيا إقصائية؛ دينية في خطابها، أمنية في بنيتها، وعنيفة في إدارتها للاختلاف. ولا تزال آثار هذا المشروع تحكم تفاصيل المشهد حتى اليوم، رغم سقوط واجهته الرسمية في 2019.

الحرب التي اندلعت في 15 أبريل ليست معزولة عن هذا التاريخ، بل هي الانفجار الطبيعي لأزمة مؤجَّلة؛ إذ لم يتم تفكيك الدولة العميقة، ولم يُطرح مشروع وطني جامع يعيد بناء العقد الاجتماعي من أسفل، ولم تُراجَع البنية المركزية التي تحتكر الموارد وتقصي الهويات.

وهنا يظهر التحالف التأسيسي – لا كتحالف ظرفي – بل كضرورة تاريخية نابعة من عمق الأزمة السودانية. إنه تعبير عن تراكم الوعي بالهامش والتهميش، وعن محاولة جادّة لإنتاج دولة تُبنى من قاع المجتمع، لا من قمّته، ومن تنوّعه لا من وَهم صفائه.

ومع ذلك، لا يزال هذا التحالف يتحسّس لغته، ويبحث عن صوته.

تأخّر في إنتاج خطابه الفكري، وفي تحديد موقعه من معركة الوعي التي تُخاض الآن على كل الجبهات. فالقضية لم تَعُد سياسية فقط، بل أصبحت معرفية في جوهرها: من يملك تعريف الوطن؟ من يملك ذاكرة التاريخ؟ ومن يملك أحقّية إعادة التأسيس؟

ولأن الإعلام لم يَعُد وسيطًا، بل صار ساحة حرب، فإن بقاء الخطاب في هامش التفاعل يُعَدّ تقصيرًا لا تُغفَر عواقبه. لا بد من تفكيك المفاهيم التي يستخدمها الخطاب القديم لتجريم الجديد، ولا بد من كسر احتكار المركز للمعنى، والانتصار لبلاغة التعدد، والاعتراف بالهويات التي ظلّت مُغيّبة قسرًا باسم الوحدة الشكلية.

مشروع التأسيس ليس بديلاً انتقاميًا، بل فرصة أخيرة لإنقاذ ما تبقّى من السودان.

ولأجل ذلك، لا بد أن يتحرّك التحالف بمشروع واضح، متكامل، يستند إلى وعي بالتاريخ، وإدراك لمكر الخطابات القديمة، وجرأة في مواجهة من يريدون إعادة تدوير الخراب باسم الوطنية

إرسال التعليق