هل سيتم توطين الرعاة والرحّل؟ أم ستتكيف الدولة الحديثة مع نمطهم؟ أم سيكونون ضحايا لسياسات الحداثة؟

بقلم : تاج الدين نصر

هل سيتم توطين الرعاة والرحّل؟ أم ستتكيف الدولة الحديثة مع نمطهم؟ أم سيكونون ضحايا لسياسات الحداثة؟

سياسات التوطين القسري (الحداثة كمشروع قسري)

السمة الغالبة على الدولة الحديثة هي السعي إلى توطين الرعاة والرحّل، لأن مفهوم الدولة المركزية قائم على الاستقرار كشرط أساسي لتقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم، والصحة، وغيرها. أي أن التنمية بمعناها الواسع مرتبطة بالاستقرار في مكان واحد ومزاولة نشاط واحد كالزراعة، مثلاً. فإن مفهوم الحداثة الأوروبية، الذي تم تصديره إلينا عبر الاستعمار مع نشوء الدولة المركزية، يتنافى مع حياة البداوة، ويرى فيها تهديدًا للتخطيط والتنمية، بل أحيانًا تهديدًا للسيادة، حسب شروط التفكير الحداثي الأوروبي.

في السودان، نلاحظ أن نموذج التوطين القسري للرعاة والرحّل قد فُرض عبر التعليم النظامي في مناطق الرعي، دون مرونة أو مراعاة للشرط الاجتماعي ونمط حياة هذه المجتمعات. تم التضييق على المسارات والصواري من خلال تقنين الحيازات الرعوية، والتوسع الزراعي، لإجبار تلك المجتمعات على التخلي عن نمط حياتها المتنقل والاستقرار في مكان واحد، دون توفير بدائل اقتصادية مناسبة.

ورغم المحاولات المتكررة من قبل النخب الحاكمة، فقد أثبتت هذه السياسات فشلها، وفاقمت الأزمة، مما أدى إلى نشوب نزاعات مسلحة بسبب التمدد الزراعي في المراحيل والصواري، لا سيما في دارفور، ولا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.

هل سيكون الرعاة والرحّل ضحايا لسياسات الحداثة؟ (الحداثة كإقصاء)

للأسف، فإن الواقع يميل نحو هذا الخيار. فالمجتمعات الرعوية في كردفان ودارفور وبقية أقاليم السودان، كانت ولا تزال عرضة للتهميش التنموي والسياسي، بل أصبحت ضحية للاستغلال من قبل الأنظمة السياسية المتعاقبة. لقد تم تجهيل هذه المجتمعات عمدًا من قبل النخب المركزية، لتسهيل عسكرتها والزج بها في حروب بالوكالة عن جهاز الدولة المركزي، ما سهل نهب مواردها واستنزاف طاقاتها.

وبذلك، تم تفكيك النسيج الاجتماعي وتضييق فرص الاندماج السياسي، ومارست النخب المركزية نظرة استعلاء تجاه هذه المجتمعات، بوصفها “بدوية وغير حداثية”. لذلك، لم تكن الحداثة هنا عملية إدماج، بل تحولت إلى عملية إقصاء، جعلت الرعاة والرحّل خارج التصور الوطني للحداثة.

إمكانية تطويع الدولة الحديثة لتتناسب مع نمط حياة الرعاة والرحّل (الحداثة كعملية تفاوضية)

إن التعامل مع الدولة الحديثة كقالب جاهز أو كمنظومة تم تصديرها من الخارج (الاستعمار) أمر معيب، لأنه ينطوي على اختلالات بنيوية، إذ لم تكن الدولة الحديثة في السودان نتاج تطور طبيعي لمجتمعاته. وكما قال الدكتور أبكر: “إن الدولة الحديثة في السودان تم إلباسها لمجتمعات متفاوته تاريخيًا ومتمايزة ثقافيًا”، ما يعني أن بعض المجتمعات لامست شكل الدولة بحكم قربها من المستعمِر وتعاونها معه، بينما بقيت مجتمعات أخرى بعيدة عنها. وعند خروج المستعمر، ورثت الفئة الأولى الدولة، ووظّفتها لخدمة مصالحها، وراكمت عبرها رؤوس أموال، وخلقت موانع هيكلية أمام المجتمعات الأخرى.

لذا، علينا اليوم، كسودانيين، في هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا، أن نعيد بناء الدولة وفق السياق والشرط الاجتماعي لجميع السودانيين، لا لفئة دون أخرى.

توصيات عملية:
• يجب على الدولة تطوير نظام تعليمي متنقل مثل مدارس الجمال، الكرفانات، ومدارس الرحّل عمومًا، ليواكب التعليم النمط الثقافي والاقتصادي لحياة الرعاة والرحّل.
• يجب أن تعترف الدولة بالمسارات الرعوية (المراحيل والصواري) كجزء من الخريطة الاقتصادية الوطنية.
• ينبغي دمج المجتمعات الرعوية في اقتصاد الدولة من خلال فتح مراكز تجارية متنقلة، وأسواق موسمية — وهذه الأخيرة موجودة أصلًا، وتحتاج فقط إلى تقنين وتطوير.
• يجب أن تكون الدولة مرنة ومتفهمة للشرط الثقافي المحلي، تراعي التعدد والتنوع، ولا تسعى لصهر الجميع في قوالب جاهزة. بل يجب أن تتعامل مع التعدد والتنوع كأصل نعتز به، لا كعقبة.

ختامًا:

الرحّل، كشريحة اجتماعية ظلّت مهملة لعقود طويلة ومحرومة من حقوقها الاجتماعية والسياسية، آن الأوان أن تُنصف، وأن تصبح جزءًا أصيلًا في تصورنا الوطني لدولة عادلة وشاملة.

إرسال التعليق