العلمانية في السودان : من الشعارات إلى المشروع الوطني

في السنوات الأخيرة، ارتفعت وتيرة الحديث عن العلمانية في المشهد السوداني، خاصة في أوساط الشباب بعد سقوط نظام الإنقاذ. يتكرر هذا الطرح في المؤتمرات والفعاليات السياسية، أحيانًا في هيئة شعارات حماسية أو هتافات مصحوبة بالرقص والغناء، كما حدث في جلسات مؤتمر “تأسيس” وما قبله من مؤتمرات وتنديدات الثوار الذين ينادون بعلمانية الدولة. لكن خلف هذا الحماس، يُطرح سؤال جوهري:
هل نملك فهمًا حقيقيًا للعلمانية؟ أم أنها مجرد رد فعل على فشل الإسلاميين؟

ما العلمانية التي نتحدث عنها؟

غالبًا ما تُفهم العلمانية في السودان على أنها نقيض للدين، أو أنها مشروع غربي بالكامل لا مكان له في المجتمعات الإسلامية. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا.

العلمانية، ببساطة، هي فصل مؤسسات الدولة عن المؤسسات الدينية، بما يضمن حياد الدولة تجاه المعتقدات المختلفة، وحماية الحريات الفردية. غير أنها لا تأتي في قالب واحد؛ ففي فرنسا مثلًا، تُمارَس بشكل صارم يمنع الرموز الدينية حتى في المدارس، بينما في أمريكا، تُتاح حرية ممارسة الدين في المجال العام ما دامت لا تتدخل في شؤون الدولة. أما في الهند، فهناك علمانية تحترم التعدد الديني وتحمي خصوصيات الجماعات المختلفة.

إذن، ليست هناك علمانية واحدة، بل تجارب متعددة بحسب طبيعة المجتمع.

السياق السوداني مختلف

السودان بلد متعدد الأعراق والثقافات والأديان، لكنه في أغلبه يحتفظ بتدين شعبي عميق، خاصة في المناطق الريفية مثل كردفان ودارفور والنيل الأزرق. الإسلام، في هذه السياقات، ليس مجرد دين، بل جزء من الهوية اليومية للناس، مصدر للأخلاق والعلاقات الاجتماعية، وليس أداة سياسية.

لذلك، لا يمكن استنساخ تجربة علمانية فرنسية مثلًا على مجتمع بهذه البنية. كما أن نزع الدين بالكامل من المجال العام قد يولّد حالة من الرفض المجتمعي، ويُعزز الشعور بأن هناك مشروعًا جديدًا يُفرض من خارج السياق المحلي.

من نقد المشروع الإسلامي إلى نفي الدين

كثير من المطالبات بالعلمانية في السودان تنبع من نقد تجربة الإسلاميين في الحكم، وهي تجربة قامت على تأويل ديني واحد، وأقصت المخالف، وخلقت منظومة قمع باسم الشريعة. هذا النقد مشروع وضروري، لكن المشكلة تكمن في الانتقال من رفض استغلال الدين إلى رفض الدين نفسه كليًا.

من حق أي فرد أن يطالب بفصل الدين عن الدولة، لكن من الخطأ تحويل العلمانية إلى أداة إقصاء جديدة، تُقصي المتدينين من الحياة العامة أو تنظر إليهم بتعالٍ. فكما لا يجوز للدين أن يحتكر الدولة، لا يجوز للعلمانية أن تحتكر الأخلاق.

وهنا يجب أن نستحضر ما تنص عليه المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تعطي لكل إنسان الحق في حرية الدين والمعتقد، لكنها تضع حدودًا لهذه الحرية عندما تصطدم بالنظام العام أو حقوق الآخرين. ما يعني أن الحرية ليست مطلقة، سواء دينية أو علمانية.

نحو صيغة سودانية: علمانية توافقية

الحل لا يكمن في محو الدين، ولا في استعادته كأداة للحكم، بل في إعادة التفكير في علاقة الدين بالدولة ضمن إطار سوداني.
هذا الإطار يجب أن:

  • يضمن حياد الدولة تجاه جميع المعتقدات.
  • يفصل بين المؤسسات الدينية والتشريعية.
  • يحترم التعدد الثقافي والديني في البلاد.
  • يحفظ الحق في الممارسة الدينية لمن أراد، دون قمع أو فرض.

هذه ليست علمانية غربية مستوردة، بل صيغة توافقية سودانية، تحمي الحرية، وتحترم الموروث الثقافي بشتى طقوسه وممارساته، وتُنهي الاستقطاب بين “دولة الشريعة” و”دولة اللادين”.

أسئلة للمستقبل

ما نعيشه اليوم هو مخاض فكري وسياسي، يتطلب منا أن نطرح أسئلة حقيقية بدلًا من الاكتفاء بالشعارات:

  • هل يمكن بناء دولة مدنية دون احترام التعدد الديني؟
  • هل العلمانية التي نرفعها اليوم تمثل وعيًا ناضجًا أم مجرد رد فعل؟
  • وهل من الممكن صياغة نموذج سوداني خاص، يوازن بين الدين والحرية، وبين العدالة والتنوع؟

ربما لا نملك إجابات جاهزة، لكن البداية تكمن في الاعتراف بأننا لا نستطيع استيراد الحلول، بل علينا أن نُنتجها من داخل واقعنا وتاريخنا ومجتمعنا.

إرسال التعليق