ازدواجية المعايير في تبنّي العلمانية وعدم الاتساق مع مبادئها

في ظل المتغيرات السياسية والاجتماعية التي يشهدها السودان، تصاعدت أصوات العديد من الشباب المطالبين بالعلمانية، وهو مطلب يبدو في ظاهره نابعًا من رفض للتجربة الإسلامية في الحكم التي خاضها السودان خلال العقود الماضية.
لكن هذه المطالبة، وإن بدت جريئة وحديثة، غالبًا ما تفتقر إلى وعي عميق بحقيقة العلمانية، وجذورها التاريخية، وسياقات تطبيقها، وحدودها في مجتمعات ذات طابع ديني محافظ.

في إحدى فعاليات مؤتمر تأسيسي، ظهر مشهد لشباب يرقصون مرددين شعارات تطالب بالعلمانية. وهنا تبرز المفارقة: اختزال مفهوم فكري معقّد وعميق في شعارات سطحية، دون إدراك أن للعلمانية ثمنًا بحجم القضية المطروحة.

العلمانية، في تعريفها الأساسي، هي مبدأ يقوم على فصل الدين عن مؤسسات الدولة، وهي فلسفة تهدف إلى حماية الحريات الفردية والعامة دون تدخل ديني في التشريع والإدارة. إلا أن العلمانية، كما نشأت في أوروبا، جاءت في سياق صراع تاريخي مع الكنيسة وسلطة رجال الدين، وهي ظروف يصعب استنساخها في المجتمعات الإسلامية، التي تختلف جذريًا في بنيتها الدينية والاجتماعية، ولا تتماشى مع التصورات الغربية لهذا النموذج.

إن التعدد الثقافي والديني في السودان لا يمكن عزله عن جذوره، خاصة في الأقاليم التي تُشكّل الوعاء الشعبي الأكبر، مثل كردفان ودارفور والنيل الأزرق. هذه المناطق تتسم بتنوّع إثني وثقافي وديني، لكنها تحتفظ في الغالب بهويتها الإسلامية كمرجعية أخلاقية واجتماعية. وبالتالي، فإن أي دعوة لتبنّي نظام جديد يجب أن تُطرح في سياق يحترم هذا الواقع، لا أن تُفرض عليه بطريقة قسرية أو سطحية.

ومن المهم التمييز بين رفض استغلال الدين سياسيًا ـ وهو أمر يرفضه كثيرون ـ وبين رفض الدين نفسه كمصدر للضبط الاجتماعي والأخلاقي. فكثير من الشباب يطالبون بالعلمانية كرد فعل على تجارب حكم دينية سابقة، دون أن يدركوا أن الحل لا يكمن في تبنّي نموذج مستورد لا يراعي طبيعة المجتمع، بل في صياغة نموذج وطني توافقي يحترم التعدد ويحقق العدالة.

وكما يشير المفكر طلال أسد، فإن “العلماني لا يتشكّل في فراغ، بل في سياق تاريخي وزماني خاص”. وعليه، فإن استنساخ النموذج العلماني الغربي دون فهم خصوصية السياق المحلي، يؤدي إلى خلق صدام مع المجتمعات بدلًا من التفاهم معها.

حديثي هذا لا يأتي من منطلق ذاتي فردي، بل من زاوية وعي جمعي يتأمل حالة الشباب الذين باتوا يرفعون شعار العلمانية دون مراعاة لطبيعة المجتمعات المسلمة التي نشأوا فيها، وتشكّلت هويتهم الثقافية والدينية في أحضانها.

وهنا تبرز المفارقة الكبرى: فالعلمانية، كما يطرحها المدافعون عنها، تقوم على مبدأ احترام التعدد ورفض فرض نمط واحد من القيم أو الأخلاق على الجميع. ومع ذلك، ما نشهده هو تناقض صارخ؛ إذ تتحوّل العلمانية، في بعض الخطابات، من دعوة إلى الحرية إلى وسيلة إقصاء جديدة، تُفرض من خلالها قيم محددة على مجتمعات لها خلفيات دينية وأخلاقية مغايرة.

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى المادة (9) من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، التي تنص على أن “لكل إنسان الحق في حرية الفكر والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير دينه أو معتقده، وحرية الإظهار بالدين أو المعتقد بالتعليم والممارسة والعبادة”. إلا أن هذه المادة نفسها تُجيز تقييد هذا الحق إذا تعارض مع النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب أو حقوق الآخرين. وهنا تتجلى المعضلة: لا يمكن، باسم الحرية، فرض نمط أخلاقي على مجتمع متدين، تمامًا كما لا يجوز كبح حرية المعتقد لمن اختار نمطًا مغايرًا.

خلاصة القول
يمكنني أن أطرح هنا مجموعة من الأسئلة التي تستحق مراجعة جادة للإجابة عنها:
هل العلمانية التي تُرفع كشعار في بعض المؤتمرات تمثّل وعيًا حقيقيًا بالمفهوم، أم أنها مجرد ردّ فعل عاطفي على فشل الإسلاميين في إدارة الدولة؟
وهل البديل هو نزع الدين من المجال العام تمامًا، أم إعادة التفكير في علاقة الدين بالسياسة ضمن إطار سوداني لا يتنكر لموروثه، ولا يعيد إنتاج أخطاء الماضي

إرسال التعليق