تصعيد الجيش السوداني ضد دول الجوار : أزمة داخلية تتحوّل إلى صراع خارجي
تصعيد الجيش السوداني ضد دول الجوار: أزمة داخلية تتحوّل إلى صراع خارجي
بينما يعيش السودان إحدى أعنف حروبه الداخلية منذ الاستقلال، تتحرك قيادة الجيش السوداني بخطاب متسارع نحو تصعيد سياسي وأمني مع محيطه الإقليمي. فبعد تبادل الاتهامات مع الإمارات وكينيا وجنوب السودان وتشاد ويوغندا، يتجه الجيش اليوم نحو فتح جبهة جديدة مع ليبيا، متهماً أطرافاً ليبية بدعم قوات الدعم السريع. هذا التصعيد المتنقل لا يمكن فصله عن منطق الأزمة العميقة التي يعيشها الجيش في إدارة حرب طاحنة لم يتمكن من حسمها رغم مضي أكثر من عام على اندلاعها، وهو ما يدفعه إلى توسيع دائرة الصراع نحو الخارج في محاولة لصياغة سردية مؤامراتية تعفيه من مواجهة مسؤولياته الكارثية في الداخل.
منذ بداية الحرب في أبريل 2023، لم يستطع الجيش السوداني كسر معادلة التوازن الميداني أمام قوات الدعم السريع، رغم أنه الطرف الذي يحتكر رمزية الدولة ويمتلك أدوات السلطة التقليدية. وبينما كانت البلاد تزداد انهياراً إنسانياً واقتصادياً وسياسياً، تزايدت نبرة الجيش في إلقاء اللوم على قوى إقليمية اتهمها بتغذية الصراع ودعم خصمه المسلح. بدأ التصعيد باتهام الإمارات بتمويل وتسليح الدعم السريع، ثم تحولت الاتهامات إلى كينيا بسبب موقفها من لجنة الإيغاد، ومن ثم جنوب السودان، الذي اتهمه الجيش باحتضان مقاتلين تابعين لحميدتي. تبعت ذلك اتهامات ضد تشاد ويوغندا، وصولاً إلى ليبيا التي اعتبرها الجيش مؤخراً بوابة تهريب سلاح لصالح الدعم السريع عبر الجنوب الليبي.
رغم أن جزءاً من هذه الاتهامات يرتكز على واقع إقليمي معقد، تتداخل فيه مصالح دول عدة في الملف السوداني، إلا أن الخطورة تكمن في طبيعة الخطاب العسكري الذي يصر على تصدير الصراع إلى الخارج كجوهر للأزمة، بدلاً من مراجعة الفشل البنيوي الذي قاد السودان إلى الانفجار من داخله. فالحرب الدائرة لم تنشأ أساساً نتيجة تدخلات خارجية، بل كانت تتويجاً لعقود طويلة من عسكرة الدولة الوطنية السودانية التي خضعت طوال تاريخها لمنطق عسكرة السلطة بدلاً من بنائها على قواعد العقد المدني الشامل.
المفارقة أن الدعم السريع ذاته الذي يخوض الجيش حرباً مفتوحة ضده اليوم، لم يكن قوة خارجية معادية فرضت نفسها على الدولة، بل نشأ وتمدد أصلاً من رحم السلطة العسكرية عبر صفقات التمكين التي عقدتها الأنظمة العسكرية السابقة، وفي مقدمتها نظام البشير، ضمن محاولة تفتيت التوازنات الداخلية وتعزيز السلطة من خلال موازين قوى أمنية موازية. وبذلك فإن محاولة الجيش تصوير ما يحدث بوصفه نتاجاً لمؤامرات دولية خالصة تبدو قفزاً فوق حقيقة أن تفكيك الدولة بدأ من الداخل، من داخل المؤسسة العسكرية نفسها التي سمحت لهذا الانفجار بأن يتشكل.
الأخطر في هذا السلوك التصعيدي أن الجيش السوداني لا يدرك أنه بهذا الخطاب يصنع عزلة دبلوماسية متزايدة للسودان على المستوى الإقليمي والدولي. إذ بينما يوسع دائرة اتهاماته لجيرانه، يضيّق في المقابل فرص الوساطة والتفاوض، ويقوّض أي بيئة إقليمية قد تُبنى عليها تسوية سياسية قادرة على وقف هذا النزيف الدموي. فكلما اتسعت قائمة المتهمين خارجياً، كلما تعمقت أزمة الشرعية الإقليمية التي يعانيها السودان، وكلما زاد تعقيد مهمة الوصول إلى حل سياسي يحظى بدعم دولي حقيقي.
الأزمة لا تقف فقط عند حدود العزلة السياسية، بل تمتد إلى تهديد حقيقي بتحويل السودان إلى ساحة مواجهة مفتوحة لصراعات إقليمية ودولية بالوكالة، في منطقة تعج أصلاً بالتدخلات في البحر الأحمر والقرن الأفريقي ومنطقة الساحل والصحراء. وإذا استمر الجيش في تغذية هذا النهج الخطابي، فإنه يفتح الباب أمام مزيد من الانفلات في السيطرة على المشهد السوداني برمّته، وتضاعف فرص التدخلات الخارجية بأشكال مباشرة وغير مباشرة من قوى تبحث عن موطئ قدم استراتيجي في قلب هذه الجغرافيا الهشة.
في جوهر هذه السياسة، يكمن العطب المزمن الذي حكم المؤسسة العسكرية السودانية تاريخياً: الهروب من الاعتراف بفشل النموذج العسكري في إدارة الدولة. فبدلاً من مراجعة سنوات من عسكرة السلطة وتدمير مؤسسات الدولة المدنية، يواصل الجيش إنتاج خطاب الخطر الخارجي كتبرير لاستمراره في قيادة حرب بلا أفق سوى تفكيك ما تبقى من بنية الدولة والمجتمع معاً.
السودان اليوم أمام مأساة مركبة؛ لا تكمن فقط في استمرار القتال المفتوح، بل في انعدام الجرأة السياسية لدى المؤسسة العسكرية في الإقرار بأن إدارة البلاد بالعقلية الأمنية وحدها هي التي فجرت كل هذا الخراب، وأن استمرارها في تصدير الأزمة إلى الخارج لن يعيد بناء الدولة، بل قد يُفقد السودان ذاته كوطن متماسك داخل حدوده.
الفرصة الوحيدة أمام السودان لا تمر عبر اتهام دول الجوار، بل في لحظة مراجعة حقيقية وصريحة لمنظومة الحكم العسكري نفسها، والقطع مع منطق الدولة الأمنية التي أوصلت السودان إلى هذا المأزق المتوحش، وإعادة طرح مشروع وطني جديد يقوم على العقد المدني والمساءلة والعدالة الشاملة. وما عدا ذلك فهو استمرار في طريق الانهيار المفتوح الذي قد يطوي الدولة السودانية بالكامل إن استمر العبث السياسي والعسكري بهذا الإيقاع.
إرسال التعليق