السودان الجديد : نحو دولة علمانية لا مركزية قائمة على العدالة والمساواة
يمرّ السودان اليوم بلحظة فارقة في تاريخه، تتجلّى فيها ملامح التحوّل العميق نحو بناء وطنٍ يستوعب جميع مكوّناته، ويُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والشعب على أسس جديدة، أكثر عدالة وإنصافًا. إننا أمام فرصة تاريخية لإعادة تأسيس الدولة السودانية، بعيدًا عن إرث الاستئثار والإقصاء الذي طبع العقود الماضية.
لطالما كانت السلطة والثروة في السودان حكرًا على قِلّة من النخب التي كرّست الامتيازات لمصلحتها، بينما همّشت الأغلبية من أبناء الوطن. غير أن هذا النموذج القائم على الهيمنة بدأ يتصدّع تحت ضغط نضالات شعبٍ واعٍ، يؤمن بأن التغيير لم يعد خيارًا، بل ضرورة مصيرية لا رجعة عنها.
السودان الجديد ليس امتدادًا لماضٍ مأزوم، بل هو انطلاقة نحو مستقبلٍ تصنعه الإرادة الشعبية، ويقوم على قيم الحرية، والعدالة، والمساواة. الجيل الحالي يُدرك أن هذه القيم ليست شعارات تُرفع في المواكب فحسب، بل حقوق أصيلة يجب أن تكون أساسًا للدولة الجديدة.
وفي قلب هذا التحوّل، تبرز العلمانية كأحد الأسس الجوهرية لبناء دولة عادلة تتّسع للجميع. ومن المهم تصحيح المفاهيم المغلوطة التي ارتبطت بهذا المصطلح لعقود.
العلمانية لا تعني إقصاء الدين أو محاربته، بل تعني حياد الدولة تجاه الأديان، وضمان حرية المعتقد لجميع المواطنين، مسلمين ومسيحيين وأصحاب المعتقدات الأخرى، دون تمييز. فالدولة الحديثة التي نحلم بها، هي تلك التي تحمي حقوق الجميع، وتمنع استخدام الدين كأداة للإقصاء أو الهيمنة السياسية.
السودان بلد متنوّع الأعراق والثقافات والديانات، وهذا التنوّع لا يمكن أن يُدار إلا من خلال نظام فيدرالي لا مركزي، يضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة، ويمنح الأقاليم القدرة على إدارة شؤونها بما يتوافق مع خصوصياتها.
إن الاتفاقات السياسية، وأهمها اتفاق نيروبي التأسيسي، أشارت بوضوح إلى ضرورة بناء دولة علمانية لا مركزية، تضمن الحريات والحقوق بالتساوي، وتقطع الطريق أمام الاستبداد باسم الدين أو الجهة.
نحن اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن نسير بثبات نحو تأسيس دولة علمانية لا مركزية حديثة قائمة على قيم المواطنة والعدالة، أو أن ننكفئ إلى ماضٍ تجاوزه الشعب بوعيه وتضحياته. والعودة إلى الوراء تعني خيانة لأرواح الشهداء، وتهديدًا لأحلام الملايين الذين رفعوا البندقية، وتعالت أصواتهم يطالبون بوطنٍ حر، ديمقراطي، يسود فيه القانون، وتُصان فيه كرامة الإنسان.
إن التحوّل إلى دولة علمانية لا مركزية ليس ترفًا فكريًا، بل هو استحقاق لبناء السودان الجديد، الذي يليق بتاريخه، ويستجيب لتطلعات أبنائه
إرسال التعليق