عرب دارفور : ضحايا السياسة و الهوية

في سردية الصراع السوداني، كثيرًا ما جرى الحديث عن المظالم التي لحقت بالمكونات غير العربية في إقليم دارفور، بوصفها الطرف “المقهور” في مواجهة الدولة المركزية. غير أن هذا التركيب الثنائي – عرب مقابل أفارقة، ظالم مقابل مظلوم – أخفى وراءه حقيقة أكثر تعقيدًا، ووقائع أوسع من أن تُختصر في مجازٍ عرقي. فبين ركام الحرب، نجد أن كثيرًا من عرب دارفور أنفسهم كانوا ضحايا للمنظومة ذاتها التي صُوِّروا في الإعلام على أنهم خُدّامها.

من الميدان إلى التهميش: تاريخ لا يُروى

تعود جذور القبائل العربية في دارفور إلى قرون طويلة، حيث ساهمت في بناء اقتصاد الإقليم من خلال الرعي والتجارة، بل شاركت في هياكل سلطوية محلية كالسلاطين التقليديين والمجالس العرفية. غير أن مركزية الدولة السودانية، منذ ما بعد الاستقلال وحتى عهد الإنقاذ، همّشت هذه الهياكل لصالح نظم بيروقراطية مؤدلجة، حوّلت القبائل إلى أدوات طيِّعة أو خصوم محتملين.

فعلى سبيل المثال، قبائل الرزيقات التي تُصوَّر في الخطاب العام كحليف ثابت للسلطة، كانت في منتصف الثمانينيات عرضة لتهميش ممنهج. ففي عام 1989، وبعد انقلاب الإنقاذ، جُرِّدت العديد من فروع القبيلة من سلاحها بذريعة “حفظ الأمن”، رغم تنامي خطر التفلتات المسلحة في مناطقها. ثم، ومع اندلاع تمرد دارفور في أوائل الألفينات، حُمِّلت القبائل العربية وزر الجرائم التي ارتكبتها الميليشيات الموالية للنظام، دون تمييز بين من شارك فعلًا في القتال ومن كان مجرد راعٍ أو فلاح تحوّل منزله إلى ساحة حرب.

كذلك لم تكن قبائل المعاليا والبني حسين بعيدتين عن هذا المصير. ففي صراع المعاليا والرزيقات بين عامي 2013 و2015، اختارت الدولة أن تلعب دور “الوسيط المتفرج”، تاركة القتال يحصد المئات دون تدخل فعّال لنزع فتيل الأزمة أو ملاحقة المجرمين. أما الصراع مع البني حسين، فواقعة النزاع في جبل عامر عام 2013 – التي خلفت مئات القتلى من المدنيين – كشفت كيف تتخلى الدولة عن أقرب من يُفترض أنهم “حلفاؤها” حين تكون المصالح الاقتصادية، كالذهب، أهم من الأرواح.

الدولة التي سلّحت ثم تخلّت

لم تكتفِ السلطة المركزية بإقصاء القبائل العربية بالتجاهل، بل ساهمت فعليًا في تفتيتها. ففي مطلع الألفينات، شجّع نظام البشير بعض المكونات العربية على تشكيل قوات مسلحة محلية تحت مسميات مثل “الدفاع الشعبي” أو “حماة القرى”، دون وضع إطار قانوني واضح لها. ومع تغيّر السياقات الإقليمية وتزايد الضغوط الدولية، حُمِّلت هذه الميليشيات تبعات الفظائع، دون مساءلة للمسؤولين في الجيش أو جهاز الأمن الذين خطّطوا وجهّزوا وأمروا.

وفي لحظة تحوّل، تخلّت الدولة عن هذه القوات بعد أن انتهى دورها التكتيكي، فتم نزع سلاحها بالقوة أو إحالتها للتصفية، تمامًا كما حدث مع بعض عناصر “حرس الحدود” و”شرطة المجتمعات الريفية”، الذين وُجِّهت إليهم لاحقًا تُهمٌ جنائية دون أي حماية سياسية أو قانونية.

التضليل الإعلامي… حين يُصبح العِرق تهمة

في السياق الإعلامي، اختُزل الصراع في معادلة «عرب ضد أفارقة»، كأن التكوين الإثني يُحدد الولاء السياسي أو الأخلاقي. لعب هذا التبسيط دورًا خطيرًا في تحويل القبائل العربية إلى “مشتبه فيهم جماعيًا”، دون تحقيق، ودون إدراك لتنوع المواقف داخل هذه المجموعات.

فعلى سبيل المثال، قيادات عربية محلية مثل الراحل الطيب هارون من الرزيقات، ومحمد بحر الدين من المعاليا، كانت لهم مواقف مناهضة لتسليح القبائل، ودعوات واضحة للمصالحة، لكن أصواتهم خُنقت تحت ضجيج السلاح والدعاية.

بل إن بعض أبناء عرب دارفور – وخاصة من الشباب – انخرطوا في الحراك السلمي، مثل مشاركتهم في حراك سبتمبر 2013، أو لاحقًا في ثورة ديسمبر 2018، لكنهم ظلّوا يُعامَلون من الناشطين المدنيين في الخرطوم باعتبارهم امتدادًا للميليشيا، لا شركاء في الوطن.

هل من طريق إلى العدالة؟

العدالة لا تُبنى على الانتقاء، ولا يمكن أن تُقام على قاعدة أن “بعض الضحايا لا يستحقون الاعتراف”. إن إعادة النظر في تاريخ الصراع في دارفور تقتضي مساءلة شاملة لكل من ساهم في إشعال الحرب، بمن فيهم قيادات الجيش الذين خلقوا نزاعات مصطنعة بين القبائل العربية وغير العربية، وكذلك الإعلاميون والمثقفون الذين روّجوا لروايات عنصرية في الداخل والخارج.

ولعل أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة دارفور هو أن القبائل العربية ليست كتلة صمّاء، ولا صفًا واحدًا خلف السلطة، بل هي مجتمع متنوع، فيه الضحية والمقاوم، كما فيه من انزلق إلى العنف مدفوعًا بالظلم أو الخوف.

نحو سردية جديدة

إن كتابة تاريخ دارفور من جديد لا تعني تبرئة أحد، بل تستهدف شمول الجميع في الحقيقة. فالتاريخ الذي تجاهل معاناة عرب دارفور، هو ذاته الذي أنكر إنسانية الفور والمساليت والزغاوة. وما لم تتحقّق مصالحة تقوم على الاعتراف المتبادل، سيبقى الإقليم يدور في حلقة مفرغة من الشك والانتقام.

اليوم، يحتاج دارفور إلى عدالة تُنصف لا تنتقم، وإلى ذاكرة تُنقّح لا تُحرّف. فكما يحق لضحايا الأمس أن يُحاسِبوا، يحق للمُتَّهَمين ظلمًا أن يُستَمع إليهم. وحده هذا التوازن يمكن أن يُنتج سلامًا لا ينهار عند أول عاصفة

إرسال التعليق