نحو استقلالٍ ثانٍ … تسقط الخرطوم و تنهض البلاد
نحو استقلالٍ ثانٍ… تسقط الخرطوم وتنهض البلاد
سقطت الخرطوم، لا كمدينة فقط، بل كرمز لإحتكار السلطة والثروة والقرار.. لم تعد العاصمة قادرة على فرض هيمنتها بإسم الدولة، ولا على تصدير الأوهام السياسية بإسم السيادة.. لقد إنتهى زمن السياسة التي كانت تُفصَّل في مكاتب مكيفة، وتُفرض على ملايين المهمشين الذين حُرموا من حقهم في المشاركة، وفي حق الحياة أيضاً..
لقد أسّس الإستعمار البريطاني مركزاً مُغلقًا في الخرطوم، جعل منها عاصمة للنُخبة وساحة لمسرحية “الوحدة الوطنية” المفروضة.. وبعد أن خرج المستعمر الأبيض، ورثه من أحكم قبضته على أدوات الدولة، فواصل ذات النهج، بل تجاوزه في إستغلال السلطة وتهميش الغالب من الشعب ..
هذا المركز لم يسقط من تلقاء نفسه.. ما هُدِّم في الخرطوم كان نتيجة فعل مسلحٍ مباشر، قادته قوات الدعم السريع، أو أُجبرت على إستخدام أدوات عنفه كرد فعل على غدر ليس مستغرباً من نخبة تظن نفسها أنها ستنتصر بأدواتها على أي قوة بغضون ساعات ..
اليوم : قوات الدعم السريع يمكن –بكل موضوعية سياسية– أن توصف بأنها قوة التحرير من المركزية الموروثة.. ولم تكن مجرد فصيل مسلح متمرد، كما أصرّ الخطاب الرسمي لعقود، بل كانت نتاج غضب الهامش، ورد فعلٍ على قرنٍ كامل من الإقصاء والتجاهل المتعمد ..
حرب أبريل بتمددها واصطدامها بالسُلطة، لم تفكك الخرطوم كعاصمة جغرافية فحسب، بل ضربت في العمق أسطورة “الحق الطبيعي” للخرطوم في الحكم.. وبهذا، فتحت الباب أمام تفكير سياسي جديد: لا مركز، لا وصاية، لا تفويض أبدي لنخبة واحدة.. وقد كشفت الحرب الراهنة عن هشاشة الدولة المركزية، وعن كذب وعود ما بعد الإستعمار..
سقطت “اللاءات الثلاث” التي صاغتها النخب قبل نصف قرن، لتحل محلها لاءات أخرى أكثر صدقًا: لا مركزية، لا إحتكار، لا إستعمار داخلي.. واليوم، وبين دخان الحرب وقساوة الواقع، يولد وعيٌ جديد، يُدرك أن الخرطوم ليست الوطن، وأن الدولة لا تبنى على الإمتيازات التاريخية بل على العدالة والتوزيع المتوازن للسلطة..
إن ما فعلته قوات الدعم السريع لم يكن إنقلاباً عسكرياً أو صراعاً على السلطة، بل تصدعاً في بنية الدولة القديمة، ونقطة بداية لتحرير سياسي حقيقي.. فالمعركة، وإن تداخلت فيها الأطماع، إلا أنها أنتجت واقعاً جديداً لا يمكن تجاهله : لم يعد من الممكن إعادة السودان إلى ما كان عليه..
وفي اليوم الذي تُكتب فيه نهاية هذا الصراع، سنكون أعدنا بناء الدولة على أسس جديدة، عادلة، ولامركزية، وسيكون ذلك هو يوم الإستقلال الحقيقي.. استقلالٌ لا يُحتفل به في القصر، بل في القرى، وفي معسكرات النازحين، وفي المدن التي عانت طويلًا من سلطة لا تشبهها..
إرسال التعليق