إسماعيل هجانة : نحو ميلادٍ جديدٍ للهلال الأحمر السوداني(قراءة لخبر إجتماع الفولة) - صوت الوحدة

إسماعيل هجانة : نحو ميلادٍ جديدٍ للهلال الأحمر السوداني(قراءة لخبر إجتماع الفولة)

لقد عاشت الفولة، رغم قصف الطيران ومشاهد الموت التي طالت الأطفال والنساء في عموم غرب كردفان، لحظةً فارقةً من تاريخ العمل الإنساني في السودان.
هناك، انعقد الاجتماع الذي عبّر عن نقطة تحوّل جوهرية في مسار جمعية الهلال الأحمر السوداني — من مؤسسةٍ أنهكتها الانقسامات، إلى كيانٍ يسعى لإعادة تعريف ذاته على ضوء مبادئه الإنسانية السبع، المستمدة من قيم المجتمع، والمرتكزة على الحياد والوحدة والإنسانية كعناوين ومرجعيات لمسارٍ جديدٍ يُراد له أن يكون نزيهًا وواضح الرؤية.

الاجتماع في الفولة تجاوز حدود الإدارة الروتينية، وارتقى إلى مستوى أعمق من الوعي والفعل الإنساني. كان بمثابة نبضة حياةٍ جديدةٍ تعيد للمؤسسة روحها المفقودة وإيمانها بدورها الأصيل في خدمة الإنسان، بعد سنواتٍ من التيه المؤسسي والتشظي الإداري.

في تلك الجلسة تلاقت الإرادة والإصرار والوعي، فانبثقت من الحوار طاقة بناءٍ حقيقية تسعى لتحويل الجراح إلى بداياتٍ، والانقسام إلى قوةٍ توحّد الجهود نحو هدفٍ واحد.
في الفولة تجسّد معنى العمل الإنساني في أصدق صوره، حيث اجتمع العقل المؤسسي مع القلب الوطني، وامتزجت التجارب المريرة بإرادة التجاوز، لتفتح الطريق نحو مرحلةٍ جديدة تُبنى على الشفافية والانضباط، ويقودها الإيمان بأن الإنسانية طريقٌ لا ينكسر مهما اشتدت العواصف.

ذلك اللقاء رسم ملامح ميلادٍ جديدٍ للهلال الأحمر السوداني؛ ميلادًا يستند إلى القيم، ويستمد من روح المجتمع جذوره، وينطلق بخطواتٍ واثقةٍ نحو تأسيس وعيٍ مؤسسيٍ حديث يعيد للجمعية وجهها الإنساني المشرق ويجعلها عنوانًا للعطاء والمسؤولية.

١-روح التجديد المؤسسي

    جاء الاجتماع ليؤكد أن العمل الإنساني لا يزدهر إلا حين يُبنى على مرجعية واحدةٍ وهيكلٍ منسّق تتكامل فيه الفروع والمركز ضمن منظومةٍ تحكمها الشفافية والانضباط.
    لقد تجاوزت النقاشات حدود التوقعات، إذ لم تقتصر على إعادة ترتيب المكاتب أو تحديث الملفات، بل كانت انطلاقة نحو رسم مسارٍ جديدٍ للهلال الأحمر — مسارٍ يعيد تشكيل جوهر المؤسسة من الداخل بروحٍ واعيةٍ وإرادةٍ صادقةٍ لأن تكون الجمعية إنسانية بحق، مستمدة من روحها التي تفرّقت وتزعزعت بين أزمات البلاد وتحولاتها.

    ٢-توحيد المرجعية واستعادة الثقة

      اللقاء عكس لحظة استعادة للثقة بين العاملين في الحركة الإنسانية بعد سنواتٍ من الاضطراب الذي غيّب الهدف الأسمى: الإنسان.
      الرهان في هذه المرحلة يقوم على أن النهوض لا يتحقق إلا حين تنبع المرجعية من جذور المجتمع ومن المتطوعين الحقيقيين، وأن القرارات تصدر عن رؤيةٍ مؤسسيةٍ لا عن اصطفافاتٍ أو تبعيات.
      إنها دعوة إلى الانضباط في الفعل، والتجرد في الخدمة، وتحمل المسؤولية الإنسانية في ظل واقعٍ وطنيٍ منقسم، بما يضمن أن يظل العمل الإنساني حرًّا، مستقلًا، ومحصنًا من أي تأثيرات خارجية.

      ٣-من الطوارئ إلى البناء المستدام

        في كل كلمةٍ طُرحت خلال الاجتماع، تجلّى إدراكٌ عميق بأن العمل الإنساني لا يُقاس فقط بسرعة الاستجابة، بل بقدرة المؤسسة على البقاء والاستمرار.
        فالجهد المبذول اليوم يتجاوز فكرة تحديث البيانات أو إعادة التنظيم الإداري؛ إنه تأسيس لوعيٍ مؤسسيٍ متجدد يعيد للجمعية ذاكرتها التي تآكلت بفعل الأزمات، ويضمن ألا تضيع التجارب والجهود مع كل تحوّل سياسي أو ظرف طارئ.
        إنها مرحلة بناء ذاكرة لا تُمحى ومؤسسة لا تُكسر، تستمد قوتها من رسالتها الإنسانية في زمنٍ تتلاطم فيه الأزمات الوطنية.

        ٤-نحو هلالٍ يعبر عن روح المجتمع وينبع من جذورٍ إنسانية

          المرحلة الراهنة تُبنى بخطواتٍ واثقةٍ وهادئة، لكنها تحمل في جوهرها وعدًا بولادةٍ جديدةٍ للهلال الأحمر السوداني — ولادةٍ تنبع من وجدان المجتمع ومن عمق قيمه في التكافل والعطاء والمسؤولية.
          الهلال الذي يُراد له أن ينهض اليوم ليس مؤسسةً جامدة، بل ضميرًا جمعيًا حيًا يعبّر عن نبض الناس في المدن والقرى والمخيمات، ويتّحد حول فكرةٍ واحدة: أن خدمة الإنسان هي أسمى أشكال الوطنية.

          المرحلة القادمة ليست مجرد إدارة أزمة، بل تأسيس لوعيٍ جديدٍ بالمسؤولية الإنسانية — وعيٍ يدرك أن الإنسانية ليست شعارًا يُرفع في الأزمات، بل منهج حياةٍ وموقفٌ أخلاقيٌ راسخ يتجاوز الحدود والانتماءات، ويعيد إلى السودان وجهه الإنساني المشرق، وهلاله الذي يشعّ من روح المجتمع لا من فوقه.

          في الفولة، كان الاجتماع والحوار بمثابة وضع الأسس الجوهرية لرؤية المستقبل، وميلادًا جديدًا لفكرةٍ نبيلةٍ طال انتظارها — أن تكون الجمعية بيتًا لكل السودانيين، وسندًا لكل من يحتاج المساعدة، وصوتًا للضمير الإنساني حين يصمت الجميع.

          لقد كانت الفولة جزءًا من الحكاية الأعمق من الحرب — رؤيةٌ تتجاوز الحدث إلى المعنى، وتحوّل الفوضى إلى تأسيس، والوجع إلى وعيٍ جديدٍ بالإنسان.

          إرسال التعليق

          لقد فاتك