كاربينو يكتب : التدخل المصري في حرب السودان بين الخوف من التغيير والرغبة في الوصاية - صوت الوحدة

كاربينو يكتب : التدخل المصري في حرب السودان بين الخوف من التغيير والرغبة في الوصاية

منذ فجر التاريخ الحديث ظل الموقف المصري تجاه السودان محكوماً بعقيدة راسخة في ذهنية نخبها الحاكمة أن السودان امتداد للعمق الاستراتيجي المصري وليس دولة ذات سيادة كاملة وإرادة مستقلة هذه الرؤية المتعالية لم تتبدل كثيراً عبر الأنظمة المتعاقبة في القاهرة، سواء كانت ملكية أو مخ ناصرية أو عسكرية أو حتى تلك التي لبست ثوب الثورة، فكلها تعاملت مع السودان باعتباره مجالاً حيوياً للتوسع والهيمنة لا شريكاً متكافئاً في المصير والتاريخ.
وعندما اندلعت الحرب الأخيرة وجدت مصر نفسها أمام مفترق خطير إما أن تقف على مسافة واحدة من الجميع التزاماً بمبدأ السيادة، أو أن تنحاز كعادتها إلى القوى الاجتماعية والسياسية التي تُمثل الامتداد التاريخي لنظام السيطرة المركزية في الخرطوم، فاختارت الطريق الثاني دون تردد ووقفت مع جيش الحركة الإسلامية وهو الوريث المباشر لتلك القوى التي حكمت السودان لعقود عبر تحالف المال والبيروقراطية والولاء الأيديولوجي.
هذا التحالف المصري مع ما يُعرف بجيش الحركة الإسلامية لم يكن وليد اللحظة إنما هو امتداد طبيعي لعلاقة تاريخية غير متكافئة، فالقاهرة لطالما وجدت في النخب الشمالية المرتبطة بالخرطوم الوسيلة الأمثل لضمان مصالحها الاقتصادية والأمنية، في مقابل دعم سياسي وعسكري يرسخ بقاء تلك النخب في الحكم، هذه النخب وفي سبيل استمرار سلطتها تنازلت لمصر عن كثير من أوراق السيادة الوطنية بدءً من ملف مياه النيل وانتهاءً بالسكوت المريب عن احتلال حلايب وشلاتين، بل وتبرير ذلك تحت ذرائع واهية من “الأخوة” و”التكامل”.
لقد جرى تحويل السودان عبر هذه العلاقة إلى هامش تابع وجرى تهميش قواه الحية وإقصاء مناطقه المنتجة وتفكيك هويته لصالح صيغة مركزية ترعاها القاهرة وتستفيد منها، وما يجري اليوم من تدخل عسكري مباشر أو غير مباشر ليس سوى امتداد لتلك السياسة التي تتعامل مع السودان كحائط صد يحمي أمن مصر المائي والسياسي لا كشعب يسعى لبناء مستقبله بحرية.
إن الطائرات المسيرة التي تنطلق من مطارات مصرية لتضرب أراضي السودان والصور الجوية التي تُستخدم لتوجيه نيران الحرب ضد المدنيين ما كانت يوماً شأناً جانبياً أو حتى تعاوناً استخبارياً، بل هي تدخل سافر يمس جوهر السيادة ويكشف نوايا القاهرة الحقيقية، فمصر لا تخشى الحرب بقدر ما تخشى السلام لأنها تدرك أن أي نظام ديمقراطي في السودان سيعيد تعريف العلاقة معها على أسس الندية والمصالح المشتركة، لا على قاعدة التبعية التاريخية.
الخوف المصري من الديمقراطية في السودان ليس خوفاً سياسياً فحسب، فهو خوف وجودي من تحول ميزان القوى في وادي النيل، فالنظام الديمقراطي يعني نهضة زراعية وصناعية تعيد للسودان مكانته كقوة إنتاج حقيقية، وتُنهي حالة الاعتماد الأحادي التي استفادت منها مصر لعقود عبر الحصول على المنتجات السودانية بأسعار تفضيلية وتحت غطاء ما يسمى “التكامل الاقتصادي”.
وفي الوقت ذاته فإن قادة القوى الاجتماعية المهيمنة والذين يواصلون اليوم إدارة الحرب تحت لافتة “الجيش”، يعيش معظمهم في القاهرة يمتلكون فيها شققاً وفيللاً ويودعون أموالهم في بنوكها ويمارسون عبرها نشاطهم السياسي والإعلامي، لقد تحولت مصر إلى الملاذ الآمن لتلك الطبقة التي تبيع السيادة مقابل البقاء وتعتبر أن الدفاع عن مصالح القاهرة جزء من بقائها السياسي في الخرطوم.
لكن ما تغير اليوم هو أن الوعي السوداني بدأ يفكّك تلك المعادلة التاريخية، فالحرب لم تعدو مواجهة داخلية بين قوتين عسكريتين فهي صارت ساحة اختبار لمدى استقلال القرار الوطني من النفوذ الخارجي، وفي مقدمته النفوذ المصري، لم يعد ممكناً إخفاء الحقائق أو تغليفها بشعارات الأخوة؛ فالتدخل العسكري واللوجستي أصبح مكشوفاً للرأي العام المحلي والدولي على السواء.
على حكومة السلام والوحدة أن تُسمي الأشياء بأسمائها دون مواربة، فالصمت في مواجهة العدوان الخارجي هو خيانة للدماء التي سالت من أجل التحرر والسيادة كما يجب أن يُقال بوضوح إن ما يجري هو تدخل مصري مباشر في شؤون السودان الداخلية، وإن السيادة الوطنية ليست ورقة تفاوض بل خط أحمر، وإن الدفاع عنها واجب سياسي قبل أن يكون عسكرياً.
إن لحظة الحقيقة تقتضي أن يتحدث السودان بصوت واحد أمام العالم أن استقلال القرار الوطني هو جوهر وجود الدولة نفسها، وأن كل من يساند العدوان من الخارج أو الداخل إنما يقف ضد مشروع الحرية والوحدة والسلام،
فالمستقبل لن يُكتب بإملاءات الجيران بل بإرادة السودانيين وحدهم الذين آن لهم أن يقطعوا آخر خيوط التبعية ويكتبوا تاريخهم بأيديهم.

إرسال التعليق

لقد فاتك