سارة السعيد : تحت الرماد | الاستيلاء الصامت: كيف أعادت مصر برمجة الجيش السوداني من الداخل
في صمت مريب، يُعاد تشكيل الجيش السوداني من الداخل. ليس عبر انقلاب أو انقسام، بل بعملية هندسة خفية، تُدار من خلف الحدود. فمنذ بدأت الحرب، تمدّدت يد القاهرة داخل المؤسسة العسكرية السودانية، لا كحليف، بل كمهندس عقائدي، ومشغّل عملياتي، وعراب لوجستي. ما تسمية القاهرة دعماً، هو في حقيقته اختراق هيكلي طويل الأمد، يجعل من الجيش – في بعض وحداته وقياداته – ليس سوى منصة سيادية مصرية بغطاء سوداني.
فالمسألة لم تعد دعماً ضد “التمرد” أو حتى تحالفاً ضد “المليشيات”. بل اصبح إعادة بناء دقيقة لعقيدة الجيش السوداني، لصالح مركز القرار في القاهرة. داخل غرف العمليات بالقاهرة، والمطارات وخطط التوزيع، وامتدت حتى إلى إختيار القادة. في الخفاء تُنسج خيوط سلطة غير مرئية، تُخضع القرار السوداني لحسابات مصرية خالصة. والسؤال الذي لم يُطرح بما يكفي: من يُصدر الأوامر فعلاً؟ ومن يكتب عقيدة الجيش السوداني الجديد؟
مصر التي لطالما قدّمت نفسها كأخ أكبر للسودان، وصديق موثوق لجيشه لعقود من التعاون العسكري، والدورات التدريبية المشتركة، والمناورات الرمزية مثل “حماة النيل”، نسجت وهماً بتحالف طبيعي. إلا ان هذا التحالف لم يكن يوماً تحالفاً متكافئاً. فمصر، التي ترى في الجيش السوداني امتدادا دفاعياً لحدودها الجنوبية، لم تكتفِ بالدعم بل بدأت، بصبر بيروقراطي واستخباري، في زرع بنيتها داخل جسد المؤسسة العسكرية السودانية.
فنشأ جيل كامل من ضباط الجيش السودان تخرّج من الكليات المصرية، لا كمجرّد متدربين، بل كحاملي عقيدة أمنية ليست فقط متماهية مع النموذج المصري بل خاضعة وتابعة : الشك في التغيير، كراهية الاحزاب والقيادات المدنية المستقلة معاً، والإيمان المطلق بالمركزية العسكرية كضمانة للدولة. هذه النواة العقائدية ليست مجرد شبكة تأثير؛ بل تحوّلت في لحظة الحرب هذة إلى جهاز تحكّم داخلي، يوجّه قرارات استراتيجية باسم السودان، بروح ليست سودانية.
وفي قلب هذا التحول، لم تعد القاهرة تكتفي بالرمزية فقط، بل بدأت تمارس ما يشبه إدارة غير معلنة لقطاعات كاملة من الجيش: من دعم لوجستي ميداني، إلى توجيه استخباراتي مباشر، إلى هندسة قرار السيادة نفسه. وهذا ما يجعل الحديث عن “تدخل مصري” تبسيطاً مُضللاً. ما يحدث أعمق: إعادة كتابة للجيش، من الداخل.
ففي مطار مروي على سبيل المثال، لم تكن الطائرات الليلية تحمل مساعدات للسودانيين. بصمت لوجستي، كانت تحطّ رحلات شحن عسكرية مصرية، بعضها مسجّل تحت شركات مدنية، تُفرغ حمولات مغلّفة بصناديق رمادية لا تحمل شعارات. فقد سجّلت منصة تتبّع الرحلات العسكرية “ADS-B Exchange” (مارس–مايو 2024) وجود 14 رحلة شحن بطراز C-130، انطلقت من أسوان، واستخدمت إشارات طيران غير مدنية. بعض هذه الرحلات رُصد عند الهبوط من قِبل مراقبين مدنيين ونُشرت صورها على منتديات الطيران الإقليمية (مثل Egypt Military Watch).
كما وثّقت صور فضائية تجارية (Planet Labs – يونيو 2024) وجود حظائر جديدة للطائرات في المطار، مع نشاط غير مسبوق لوحدات الدعم الأرضي، وهو ما يتقاطع مع تقارير محلية تحدثت عن مستشارين مصريين يعملون خارج هيكل القيادة المعلن.
ففي وادي حلفا مثلاً، تمرّ الشاحنات دون تفتيش. اذن ان ما يُعلن كقوافل إنسانية، هو في أحيان كثيرة غطاء لتسليح خاص يُمنح لألوية مختارة داخل الجيش. قوات ترتبط بالقيادة المصرية أكثر من ارتباطها بالقيادة العامة في السودان. كما ذكر مصدر أمني سابق عمل في المنطقة، أكد – تحت شرط عدم الكشف عن اسمه – أن بعض قوافل الدعم المصري تمرّ برفقة ضباط لا يتحدثون اللهجة السودانية، ويستخدمون أجهزة تشويش قصيرة المدى تم اختبارها قرب الحدود. بعض هذه الشحنات، وفق تتبعات OSINT، لم تمرّ عبر المعابر الرسمية، بل عبر خطوط ترابية تُؤمّنها وحدات استخباراتية.
اما في بورتسودان، حيث باتت العاصمة الإدارية المؤقتة، تسجّل الخرائط الاستخبارية نشاطاً مستمراً لخلية تنسيق غير معلنة، يُعتقد أنها تابعة لجهاز المخابرات العامة المصرية. تُنسّق هذه الخلية حركة الضباط، توزيع الدعم، وتحليل المعلومات الواردة من الجبهات. وبهذا أصبح القرار الميداني، في بعض القطاعات، لا يُتخذ في بورتسودان، بل يُراجع في القاهرة.
اذن لماذا تصرّ القاهرة على هذا القدر من التوغّل؟ فبالتأكيد ليس حباً في الجيش السوداني، ولا في السودان ولا السودانيين. ولكن لأن ما يحدث هناك يُهدد جوهر المعادلة المصرية داخلياً: أي انفلات في السودان قد ينسحب على وادي النيل، وأي تجربة ديمقراطية قد تُحرّض المخيال الشعبي المصري النائم، وأي سيادة سودانية حقيقية قد تعيد رسم خرائط المياه والتجارة والحدود. فمصر لا تخشى الحرب في السودان بل تخشى ما بعد الحرب.
ولهذا، فإن دعمها للجيش ليس دعماً لمؤسسة وطنية، بل هو استثمار في بقاء بنية مألوفة: جيش هرمي، مركزي، يدين بالولاء للسلطة، لا للشعب. ومن هذه الزاوية، يمكن القول ان الجيش السوداني أداة وقائية للأمن المصري، أكثر من كونه جيشاً لبلده. يُعاد هندسته ليمنع لا ليحمي، ليكتم لا ليبني، ليبقى تحت سقف معين من “التحكم القابل للتفاوض”.
فالقاهرة لا تريد جيشاً قوياً في السودان، بل جيشاً يمكن الوثوق بأنه لن يهدّد مصالحها. وهو ما يُفسّر سلوكها السياسي في المحافل الدولية: فهي تدافع عن شرعية الجيش السوداني، لا دفاعاً عن السودان، بل لاحتكار من يمثله. تُريد أن تضمن أن مَن يحمل البندقية يتكلم بلسانها، أو لا يتكلم أبداً.
ما يُبنى الآن داخل الجيش السوداني، بصمت وتنسيق مع القاهرة، لا يصنع فقط خريطة الحرب، بل يُعيد تعريف من يملك القرار في البلاد. فحين يتحوّل جيش دولة إلى امتداد عقائدي ولوجستي لجيش آخر، فإن السيادة تصبح واجهة. والخطر لا يكمن فقط في استمرار القتال، بل في تشكّل سلطة هجينة، لا هي وطنية خالصة، ولا مستعمَرة رسمية، بل كيان أمني–سياسي تكتبه أجهزة خارج الحدود.
على المدى القصير، قد يمنح هذا التنسيق الجيش السوداني بعض النفَس العسكري. لكن على المدى البعيد، هو يحفر في جدار شرعيته. إذ ما معنى جيش يدّعي حماية البلاد، بينما يتلقى توجيهاته من دولة أخرى؟ كيف يمكن بناء سلام، أو حتى تسوية، في ظل قيادة تخضع لميزان مصالح غير سوداني؟ وكيف يمكن ترميم دولة، وقد صيغ قلبها المسلّح خارجها؟
لقد أصبح اختراق الجيش بوابة لاحتلال ناعم، لا يحتاج لدبابات. فقط إلى اتفاق أمني، رحلة جوية، وضابط برتبة ظل. وما لا يراه السودانيون اليوم تحت غبار الحرب، سيظهر في اليوم التالي كحقيقة مرّة: أن معركتهم لم تكن قط مع “الميليشيا”، بل مع بنية كاملة أُعيد ترميزها كي لا تنهض.
فحين تُدار الجيوش من خلف الحدود، تُفرَغ السيادة من معناها، ويُعاد تشكيل الوطن وفق خرائط غير مرئية. مصر اليوم لا تحتل السودان بالدبابات، بل بالأكاديميات العسكرية، بالطائرات الليلية، وبالضباط الذين يبتسمون وهم يمسكون بخيوط القرار من خلف الستار. لا تحرير في ظل هذا الاختراق، ولا وطن في ظل جيش ينفّذ ما لا يجرؤ على الإفصاح عنه.
ففي زمن الحرب، تبدو البنادق مشغولة بساحات القتال. لكن الحرب الحقيقية تُخاض في غرف التحكم، حيث تُكتَب الخرائط، وتُرسَم الولاءات، ويُعاد تشكيل السودان كمنطقة نفوذ صامت. وما لم يُفكّك هذا الاختراق الآن، فإن ما سيولد بعد الحرب لن يكون وطناً، بل امتداداً لظل آخر، يحكم ولا يُرى.


إرسال التعليق