المودودي الدود : رحلة في الأنثروبولوجيا - صوت الوحدة

المودودي الدود : رحلة في الأنثروبولوجيا

حين أثار الشيخ بدران كرم الله وجهه قصة الابل والأبقار كان هذا النقاش البسيط والعميق تركني اتساءل متى تعرفت القبائل العربية في دارفور وكردفان على الأبقار وهذا السؤال يستدعي أكثر الأسئلة جوهرية في الأنثروبولوجيا متى يبدّل الإنسان رمزه الحيواني ومتى يتحول الكائن المربّى إلى مرآة لهويته الجديدة؟

في الذاكرة القديمة لهذه المجتمعات ظل الجمل هو مركز العالم. هو صنو الكرامة ووسيلة النجاة في الصحراء هذا نظام اجتماعي كامل يربط القرابة بالمراعي والمجد بالمسير والحياة بالتحمّل. غير أن هذا العالم بدأ يتبدل مع تحول المطر والحدود والتاريخ.

فحين تراجعت طرق القوافل بسبب سياسات الاستعمار التركي المصري في السودان والفرنسي في تشاد وتراجع الطلب على الإبل مع دخول المحركات الحديثة بدأت القبائل الرعوية تتحرك جنوبا تلاحق الخضرة والرطوبة ومواسم الأمطار. وفي هذا الانتقال المكاني والبيئي بدأ انتقال آخر أكثر عمقا انتقال في المعنى والثقافة.

في هذه اللحظة التاريخية تستحضر الذاكرة البقارية قصةً تأسيسية تُروى في المجالس حتى اليوم وتُعد رمزا للتحوّل والكرامة معًا

تقول الرواية إن البقّارة كانوا رعاة نوقٍ وشياه وكان لجدّهم الجنيد ثلاثة أبناء عطية وحيماد، وراشد. وكان لعطية ابن يُقال له عريق فني وكانت له ناقة حلوب تُسمّى عنجاء. ذات يوم مرّت العنجاء بمراعي بني خُزام وأخذت تقطف من أوراق شجرة بمأوى زعيمهم ويُقال إنه السلطان شرنقو عبد الله فأُعجب بها وأخفى الناقة عن صاحبها.

حين جاء عريق يسأل عنها أنكر الزعيم الخزامي رؤيتها ثم اعترف بها لاحقًا وساومه على شرائها فلما رفض قال له متفاخرا
ناقتك دخلت بحور الويك لا جاها ولا عواماً يعيدها إليك دخلت كرش فيل وخشم دود وقرن جاموس

فاشتعل غضب عريق ورد عليه بقوله الذي حفظته الأجيال
الساير عطية والمقيم حيماد والدخان البتلتل داك راشد الولاد الناقة أتمشي بيها وين يا الخزامي الداج؟

وكان يقصد أن أبناء عمومته الرزيقات والمسيرية والحوازمة وأولاد حميد والتعايشة والهبانية وأولاد راشد سيسمعون دخان الإشارة أو صوت النقارة فيهبّون لنجدته. فكان في هذا القول إعلانًا للقرابة والعزوة والهوية كما كان إيذانا ببداية زمن جديد تتداخل فيه الرموز فقرن الجاموس وكرش الفيل في قول الزعيم الخزامي يُدخلان الأبقار والحيوانات الإفريقية في عالم الصحراء العربي وكأن المخيال الشعبي نفسه يسجّل لحظة اختلاط العوالم وتحوّل الحيوان المركزي في الوعي من الجمل إلى البقرة.

من هذا المنظور ليست القصة مجرد حكاية عن نزاع على ناقة بل ميثولوجيا انتقال ثقافي ترسم حدود التحوّل من حياة الصحراء إلى حياة السافانا. فحين قال عريق الساير عطية والمقيم حيماد كان يصف نمطين للحياة التنقل الدائم شمالًا والاستقرار جنوبًا أي أنّه يختزل في كلمتين قرنين من التحوّل الإيكولوجي والاجتماعي.

وهنا يتقاطع السرد الشعبي مع ما توثّقه الدراسات الحديثة أن موجات الجفاف في شمال دارفور وكردفان دفعت الرعاة إلى الجنوب حيث التقت ثقافة الإبل بثقافة الأبقار فانبثق من التفاعل بينهما نمطٌ جديد من الهوية الرعوية هوية البقّارة التي جمعت بين إرث العروبة الصحراوي وروح السافانا الإفريقية.

لقد تغيّر الحيوان لكنّ التغيير الحقيقي كان في نظام الرموز والعلاقات صار الماء لا الرمل هو مركز العالم والمراح لا المرحال هو بيت القبيلة والقطيع لا الجمل هو مقياس الثروة. فإنّ تحوّل نوع القطيع يعكس دومًا تحوّلًا أعمق في البنية الاجتماعية والعاطفية للجماعة.

إرسال التعليق

لقد فاتك