سارة السعيد تكتب:تحت الرماد| الأيادي الأجنبية خلف حرب السودان: كيف تحوّل البلد إلى ساحة حربٍ بالوكالة
كلّ حرب في السودان تبدأ همساً في الخارج وتنتهي قبراً في الداخل. ما بدأ كصراع على السلطة تحوّل إلى نظام اقتصادي للحرب، تشغّله أموال الخارج وطائراته المسيّرة ورعاة يتحدثون باسم السيادة وهم يبيعون جثمانها قطعةً قطعة. فالقوات المسلحة السودانية، التي كانت يوماً رمز الدولة، صارت امتيازاً عسكرياً بيد القوى الإقليمية. لم تعد تعيش على شرفها أو استراتيجيتها، بل على وقودٍ أجنبي وسلاح أجنبي وإذن أجنبي بالبقاء.
تشير تقارير مفتوحة المصدر (OSINT) وتحقيقات دولية (من رويترز، واشنطن بوست، وDrone Wars UK) إلى تدفّق مستمر للسلاح والدعم اللوجستي من أربع دول رئيسية: تركيا، إيران، مصر، وقطر. ما يكشفه هذا النمط ليس تضامناً أو تحالفاً، بل شبكة رعاية منظّمة حول فيها الجيش السوداني الحرب إلى اقتصاد نفوذ، والسودان إلى سوق لشرعية مصنّعة.
بصمات أنقرة واضحة في كل طلعة جوية. فالتحقيقات وصور الأقمار الصناعية تؤكد توريد طائرات بيرقدار وذخائرها عبر شركات دفاع تركية مرتبطة ببايكار. تنكر الحكومة التركية ضلوعها المباشر، لكن الطائرات لا تطير وحدها. النموذج ذاته الذي دمّر ناغورنو كاراباخ وشمال سوريا يُستخدم اليوم لتحويل الخرطوم وأمدرمان إلى ميادين تجريب للصناعات الحربية التركية. لم تكن الصفقة دفاعية بقدر ما كانت صفقة نفوذ: سلاح مقابل موطئ قدم في البحر الأحمر وصفقات تعدين طويلة الأمد.
فمنذ أواخر 2023 بدأت الطائرات الإيرانية – مهاجر وأبابيل – تحلّق في سماء السودان. رحلات شحن جوية تحت غطاء «مساعدات إنسانية» كشفتها بيانات الطيران وتحقيقات رويترز. بدا دور طهران مزدوج: ماديّ وتقنيّ، لكنها في الجوهر تُصدّر عقيدتها الحربية وتوسّع ظلّها على البحر الأحمر. فبالنسبة لإيران، السودان مختبر استراتيجي لتجربة طائراتها وإعادة رسم حدود نفوذها في مواجهة الخليج والغرب معاً.
اما مصر فقدمت ما يحتاجه كل جيش متداع: الشرعية والغطاء. زيارات رسمية، ممرات مفتوحة، وتنسيق استخباراتي أبقت الجيش واقفاً سياسياً بينما البلاد تتهاوى إنسانياً. حسابات القاهرة واضحة: السيطرة على مياه النيل، ضبط الحدود، ومنع قيام ديمقراطية مدنية قد تُلهم الداخل المصري. لكن ما تسميه مصر «استقراراً إقليمياً» هو في الحقيقة تعفّنٌ مُدار يُبقي السودان ضعيفاً كي يبقى الآخر مطمئناً.
اما الدوحة فتلعب اللعبة الأكثر دهاءاً: وساطة في العلن، ورعاية في الخفاء. بينما تتحدث بياناتها عن المساعدات، تكشف التحليلات المالية وقنوات OSINT عن دعم سياسي وماليّ هادئ لدوائر قريبة من الجيش. الخط الفاصل بين الدبلوماسية والتواطؤ أصبح رقيقاً كقناع دينيّ على وجه المال. فهدف قطر ليس الانحياز لطرف، بل التحوّط الدائم: أن تبقى في المشهد أيّاً كان الفائز، وتُقدّم نفوذها في ثوب إنسانيّ ناعم.
في هذه المرحلة، لم تعد مأساة السودان صراعاً داخلياً؛ إنها صفقة إقليمية مكتملة الأركان. تحوّل الجيش إلى ممر للأموال والسلاح، وصارت السيادة نفسها سلعة يتداولها الرعاة الخارجيون. تركيا تبيع القدرة على القتل. إيران تبيع الاستمرارية. مصر تشتري الصمت. وقطر تُبيّض الشرعية. كل طائرة، وكل «ممر إنساني»، وكل اجتماع سلام مزعوم، هو فاتورة جديدة في دفتر الإمبراطورية.
وما زال العالم يسميها حرباً أهلية. لكنها في الأصل حربٌ مستوردة، مدفوعة الأجر، ومهندسة بعناية لتُبقي السودان سوقاً مفتوحاً للفوضى. وكلّ طائرة مسيّرة، وكلّ صفقة سلاح، وكلّ وساطة دبلوماسية، هي مسمار جديد في نعش السيادة. فالسودان لا يحتاج تعاطفاً؛ بل يحتاج إلى كشفاً ومحاسبة. فقط عندما تُسمّى الحرب باسمها الحقيقي — كاقتصادٍ دموي ترعاه الدول نفسها — يبدأ الطريق نحو الحقيقة.
في النهاية، لم يعُد السؤال من يربح الحرب، بل من يملكها. من يشتري استمرارها، ومن يبيع صمت المجتمع الدولي على خرابها. فحرب السودان حربٌ بالوكالة تُدار من مكاتب زجاجية، تُنقل بالبيانات الصحفية والرحلات الليلية، وتُغسل ببيانات إنسانية أنيقة.
تحت كلّ عنوان عن «الاستقرار» و«السلام» تفوح رائحة السيادة المحترقة. هم يسمّونها دبلوماسية، وأنا أسمّيها غسلاً للدماء. في السودان لا تدور الحرب بين الجنرالات، بل بين الحقيقة وآلة تعيش على إنكارها. كلّ ضربةٍ بطائرة مدفوعة بالذهب، كلّ هدنة وُقّعت بلغات أجنبية، ليست سوى إيصالٍ جديدٍ في دفتر الإمبراطوريات.
وحين ينقشع الدخان يوماً، لن يُحصوا القتلى، بل المشترين. حينها سيعرف التاريخ من باع الوطن قطعةً قطعة — ومن تجرّأ على تسميتهم.
تحت الرماد
تحت كلّ عنوان عن «الاستقرار» تكمن رائحة الرماد. إنها ليست حرباً بين جنرالات، بل بين الذاكرة والإنكار، بين من يبيع الموت، ومن يصرّ على تسمية الأشياء بأسمائها. وفي النهاية، سيعرف التاريخ من وقف في وجه النار — ومن أشعلها بثمن معلوم.
الله غالب
								

                                    
                                    
                                    
                                    
                                    
                                    
                                    
                                    
                                    
إرسال التعليق