محمد الحبيب يونس يكتب : الأخلاق من البراغماتية إلى التقديس - صوت الوحدة

محمد الحبيب يونس يكتب : الأخلاق من البراغماتية إلى التقديس

وُجدت الأخلاق في الأصل كوسيلةٍ ليعيش الإنسان حياةً أفضل لا كغايةٍ بحد ذاتها. فالإنسان منذ بداية وجوده، عاش تجارب طويلة ومؤلمة، تعلّم من خلالها ما ينفعه وما يضرّه كنوعٍ يسعى للبقاء ومع الزمن أدرك أن بعض الأفعال تُعين على استمرار الحياة فيما تُهدّد أفعال أخرى وجوده واستقراره فنبذها وحاربها، ومن هنا وضعت اللبنة الأولى لما نسمّيه اليوم بالأخلاق إنها ليست وحيًا سماويًا في بداياتها بل حصيلة تجربة بشرية طويلة هدفت إلى حفظ النوع من الفناء وضمان العيش المشترك بأقل قدر من الصراع.
توارثت الأجيال تلك القواعد التي وُضعت عبر التجربة الأولى حتى غدت مع الزمن أشبه بـالمرسوم الأخلاقي الذي وضعته التجارب الأولى للبشر ومع مرور العصور نسي الإنسان الغاية التي من أجلها نشأت الأخلاق فحوّلها من وسيلةٍ لحماية الحياة إلى غايةٍ يُضحّي بالحياة ذاتها لأجلها فبدلا من أن تكون وسيلة تحافظ على الإنسان صارت غاية يحافظ عليها الإنسان ويحارب لأجلها  نفسه كرغباتٍ أولاً ومن يخالفه في رؤيته الأخلاقية ثانيا ،حتى غدت الأخلاق نفسها صنمًا جديدًا يعبده البشر باسم الفضيلة.
إنّ الأخلاق في جوهرها قوانين نفعية، نشأت عن التجربة الجماعية الأولى التي عرفت من خلالها المجموعات البشرية ما يساعدها على البقاء وما يقيها من الفوضى والانتهاك الفردي. غير أن الأجيال اللاحقة تناقلت تلك الأخلاق كموروثٍ جامد، دون أن تسأل عن العلّة التي وُضعت من أجلها: لماذا يجب أن نفعل هذا؟ ولماذا يُحرَّم ذاك؟
فربّ فعلٍ كان مضرًّا في زمنٍ ما ثم أصبح نافعًا اليوم، وربّ محرَّمٍ قديمًا قد تنتفي علّته فيتبدّل حكمه. مثال ذلك قطع الأشجار: فقد كان في العصور القديمة عملاً طبيعيًّا وضروريًّا لأن الإنسان لم يكن يمتلك وسيلة أخرى لبناء المأوى أو الحصول على النار أمّا اليوم، ومع تغيّر البيئة ووسائل العيش صار القطع الجائر للأشجار فعلاً مدمّرًا للطبيعة ومن ثمّ للإنسان نفسه. وهكذا يصبح التحريم الجديد نتيجة مباشرة لتغير الواقع، لا لثبات القاعدة.
لكن بسبب التقليد وغياب الرؤية البراغماتية ارتقت الأخلاق من مرتبة النفع إلى مرتبة التقديس. ومع هذا التحول انقطعت صلتها بالحياة اليومية التي كانت سبب نشأتها وأصبحت جامدة تفرض نفسها على الواقع بدل أن تنبع منه، فغابت إرادة الحياة الحياة عن الفعل الأخلاقي وترسخت فيه الدغمائية وبذلك تشكّل انفصالٌ خطير بين الأخلاق والواقع المعيش: فالأخلاق لم تعد تتطور مع تطور الحياة بل ظلت محافظة على معياريتها الصارمة حتى أصبحت عقبة أمام الحياة بعد أن كانت أداة لبنائها.

من هنا ينبغي أن تنشأ أخلاقنا من داخل السياق المكاني الذي نعيش فيه لا أن تُسقط علينا من سياقات مغايرة لها ظروفها وأسبابها الخاصة. فلكل عصرٍ روحه ولكل مجتمعٍ تركيبته وظروفه التي ينبغي أن تُستنبط منها معاييره الأخلاقية.
الأخلاق كي تبقى حيّة، يجب أن تكون ذات إطار متنامي ينمو مع الإنسان ويُعيد تعريف نفسه وفق حاجات الواقع الجديد لا أن تظل أسيرة نصوصٍ جامدة أو تراثٍ لا يُواكب الزمن.

فالسودان مثلاً بلدٌ متعدد الإثنيات والأعراق والديانات وفيه جماعاتٌ تمتد جذورها إلى ما قبل الديانات السماوية نفسها. فهل من العدل أن نُخضع كل هذه المكوّنات لقوانين أخلاقية أو دينية لا تعبّر عن تجربتها التاريخية ولا عن ثقافتها الخاصة؟
إنّ الحل لا يكون بفرض منظومةٍ واحدة على الجميع بل بتشكيل منظومة أخلاقية مرنة تنبع من روح التعدد، وتحترم كل الموروثات والثقافات، وتوازن بين القيم الإنسانية المشتركة والخصوصيات المحلية.
إنّ الأخلاق الحيّة هي التي تُحافظ على جوهرها وهو حماية الحياة وكرامة الإنسان لكنها تُبدّل أدواتها وأحكامها بحسب تغيّر الزمن والمكان فكلما تقدّم الوعي الإنساني وجب أن تتطور معه الأخلاق .

إرسال التعليق

لقد فاتك