كاربينو يكتب : الثروة الصامتة كيف تختزن جنوب دارفور مفاتيح الأمن الغذائي؟ - صوت الوحدة

كاربينو يكتب : الثروة الصامتة كيف تختزن جنوب دارفور مفاتيح الأمن الغذائي؟

في قلب الجغرافيا السودانية تبرز ولاية جنوب دارفور بوصفها منطقة ذات موقع استراتيجي يمنحها دوراً يتجاوز حدودها الإدارية والجغرافية ، هذه الولاية التي تضم 21 محلية أصبحت اليوم واحدة من أكثر ولايات السودان كثافة سكانية متقدمة على العديد من الحواضر الكبرى حتى الخرطوم ، لا سيما بعد موجات النزوح والهجرة القسرية التي فرضتها الحركة الإسلامية تجاه مكونات في الجزيرة والخرطوم لأصولهم التي تعود إلى دارفور وكردفان ، أما مدينة نيالا عاصمتها فقد تحولت من مركز إقليمي محدود التأثير إلى محور اقتصادي صاعد يرتكز على قاعدة ضخمة من الموارد الطبيعية والبشرية.
تمتلك جنوب دارفور ما يقارب 32 مليون فدان من الأراضي الزراعية منها 28 مليون فدان صالحة مباشرة للزراعة وأربعة ملايين فدان قابلة للاستصلاح ، هذا الامتداد الزراعي الهائل يجعلها ركيزة رئيسية لأي مشروع وطني للأمن الغذائي ويُضاف إلى ذلك ما تتميز به من مناخ معتدل يتواجد فيها حتى مناخ البحر الأبيض المتوسط وهي ميزة نادرة لا تتكرر إلا في مناطق محدودة من السودان في وسط دارفور فقط الأمر الذي يمنحها قدرة استثنائية على إنتاج محاصيل متنوعة ذات جودة عالية ، ويعزز من إمكاناتها كمصدر رئيسي لتغذية الأسواق المحلية والدولية.
وعلى الرغم من هذا الثراء الطبيعي لا تزال الولاية تعاني من هشاشة في بنيتها التنموية نتيجة آثار الحرب وعدم وجود مؤسسات اقتصادية كبرى او سياسات مركزية تفتاح الآفاق ، نيالا تحتاج إرادة سياسية واقتصادية من حكومة السلام والوحدة حتى تترجم هذه الموارد إلى قوة منتجة ، فإطلاق مشروعات زراعية وتجارية مستدامة ، وبناء منظومة تصدير ذكية ، وإنشاء موانئ جافة ، وتوفير حوافز وميزات جاذبة للاستثمار كلها خطوات كفيلة بتحويل الإقليم من منطقة هامشية في الاقتصاد الوطني إلى فاعل مركزي مؤثر في الإقليم والعالم .
تختزن جنوب دارفور من الموارد ما يؤهلها ليس فقط لتكون سلة غذاء السودان بل لتنافس إقليمياً ودولياً على هذا اللقب ، إذ تسهم الولاية بـ 28٪ من إنتاج الصمغ العربي ، وهو منتج لا يُزرع عالمياً إلا ضمن نطاق محدد في السودان بين خطي العرض 13 و42 ، ويُستخدم في أكثر من 13 صناعة حيوية عالمية خاصة صناعة الأدوية لذلك أستثنته الولايات المتحدة الأمريكية من العقوبات المفروضة على نظام الإنقاذ في العام 1993م ، كما تنتج 42٪ من الفول السوداني و46٪ من الكركدي ، إضافة إلى كميات كبيرة من الخضروات والفواكه ذات القيمة السوقية العالية والتي يمكن أن تضاعف عائداتها إذا ما توفرت لها سلاسل إنتاج وتصنيع وتصدير فعالة.
وتتضافر هذه القوة الزراعية مع منظومة مائية غنية تشمل أحواضاً مائية كبرى مثل حوض البقارة ، إلى جانب السدود الاعتراضية والترابية ، والحفائر ، والأودية الموسمية ، هذه الموارد تشكل قاعدة داعمة للزراعة المستقرة والرعي الحديث ، وتعزز من استدامة الثروة الحيوانية ، التي تعد الأكبر على مستوى ولايات السودان من حيث العدد والتنوع.
إن الارتقاء بالزراعة في جنوب دارفور يتطلب الانتقال من أنماط الإنتاج التقليدية إلى نظم حديثة قائمة على التقانات الزراعية الدقيقة ، والري الذكي ، وإدارة الموارد المائية بكفاءة ، ويمكن إدماج مصادر الطاقة المتجددة وعلى رأسها الطاقة الشمسية في تشغيل الطلمبات والمشروعات الزراعية ، بما يقلل من التكاليف التشغيلية ويعزز الاستدامة البيئية ، هذا التحول التكنولوجي من شأنه أن يرفع الإنتاجية ، ويتيح فرصاً أوسع أمام الشباب والنساء لقيادة مشاريع زراعية مبتكرة ذات قيمة اقتصادية مضافة.
كما أن بناء شراكات بين القطاعين العام والخاص يمثل رافعة تنموية أساسية للولاية ، فالزراعة التعاقدية توفر آلية تسويقية متقدمة تضمن للمزارع تسويق محصوله قبل بدء الموسم ، كما تتيح للمستثمرين استقراراً أكبر في بيئة العمل الزراعي ، ومن خلال حوافز ضريبية ومالية وتبسيط الإجراءات الإدارية ، يمكن جذب رؤوس الأموال المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في سلاسل القيمة الزراعية والغذائية.
ولكي تتحول الموارد الزراعية إلى قوة اقتصادية حقيقية فإن الولاية تحتاج إلى منظومة لوجستية متكاملة ، ويشمل ذلك ربط مناطق الإنتاج بشبكات طرق حديثة ، وإنشاء مراكز تخزين ومعالجة متطورة ، وتأسيس موانئ جافة لتسهيل الصادر ، إضافة إلى إدماج تقنيات التتبع الرقمي وإدارة المخزون الذكية ، هذه الإجراءات تقلل الفاقد وتزيد الكفاءة وتربط الولاية بالأسواق المحلية والإقليمية والدولية.
كما يمنح الموقع الحدودي لجنوب دارفور بُعداً استراتيجياً لتكون مركزاً للتجارة الإقليمية ، خصوصاً مع دول غرب ووسط إفريقيا ، ويمكن عبر تفعيل أدوات الدبلوماسية الاقتصادية توقيع اتفاقيات تعاون تجاري وحدودي ، ما يتيح تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية بسهولة ويسهم في بناء شبكة تجارة عابرة للحدود ، هذا الدور الإقليمي يعزز مكانة السودان في منظومة الأمن الغذائي الإفريقي.
وتبقى التنمية في جوهرها مشروعاً إنسانياً فبدون بناء قدرات المجتمعات المحلية من مزارعين ورعاة وشباب ونساء على استخدام التقانات الحديثة وإدارة الموارد بكفاءة ، فإن أي مشروع سيظل ناقصاً لذلك فإن الاستثمار في التعليم الزراعي ، والتدريب المهني ، والتمويل الريفي يمثل ركيزة أساسية لتحويل الإنسان من مستهلك للموارد إلى منتج وقائد للتنمية.
ولا تقتصر مزايا جنوب دارفور على الزراعة والمياه والغابات بل تمتلك بيئة متكاملة تؤهلها لتكون نموذجاً تنموياً متقدماً ، وعندما تُستثمر الأرض بما يليق بها ويُحرر الإنسان من الهشاشة والتهميش تتحول نيالا من مجرد مدينة او عاصمة إلى بوابة السودان نحو المستقبل.

إرسال التعليق

لقد فاتك