المودودي الدود : ما بعد الاستعمار كيف ورثت الدولة الوطنية أمراض المستعمر؟
بعد أكثر من سبعة عقود على الاستقلال لا تزال دول الشرق الأوسط أسيرة مؤسساتٍ ورثتها عن مستعمرٍ رحل بجسده وبقي في بنيتها. كيف يمكن للدولة أن تتعافى من أمراض ميلادها الأول؟
تمهيد عن هذه السلسلة
هذه المقالة هي الأولى في سلسلة تحليلية بعنوان الطبيب والمريض نحاول من خلالها أن نفهم لماذا فشلت الدولة الوطنية في الشرق الأوسط وكيف يمكن إعادة تصورها في زمن التحولات الجيوسياسية الجديدة. لسنا هنا لتوزيع الاتهامات بل لفهم منطق الفشل ذاته كيف تحوّلت الدولة التي بُنيت باسم التحرر إلى كيان مأزوم يهدد فكرة الوطن نفسها؟
الاستقلال الذي لم يكتمل
في منتصف القرن العشرين وبينما كانت شعوب الشرق الأوسط تحتفي برحيل آخر جندي استعماري كانت هناك قصة أخرى تُكتَب في الغرف المغلقة قصة الدولة الحديثة التي ورثتها تلك الشعوب كيان سياسي مستعار من التجربة الأوروبية لكنه زُرع في تربة مختلفة دون أن يُعاد تعريفه بما يناسبها.
واليوم بعد أكثر من سبعين عامًا على تلك اللحظات التاريخية نجد أنفسنا أمام مفارقة مُحيّرة دول مستقلة رسميًا لكنها تعاني من أزمات وجودية تجعلنا نتساءل بجدية هل كان الاستقلال يومًا تحررًا فعليًا أم مجرد انتقال رمزي للسلطة من يدٍ أجنبية إلى يدٍ محلية تحمل الذهنية نفسها؟
واليوم لا يبدو الشرق الأوسط كما كان بعد الاستقلال. فالحروب الأهلية وانهيار بعض الدول وصعود الفاعلين غير الدوليين كشفت أن الدولة التي وُلدت من رحم الاستعمار لم تُشفَ بعد من أمراض ميلادها الأولى.
الاستقلال الشكلي والتبعية الجوهرية
لنتأمل المشهد كما هو حدود مرسومة بالمسطرة كيف يمكن لدولة مثل العراق أو سوريا أن تجمع بين مجتمعات متباينة في هوياتها وولاءاتها، وهي كيانات تشكلت في غرف اتفاقيات سايكس بيكو دون استشارة أهلها؟
مؤسسات مستوردة جهاز إداري صُمم لخدمة المستعمر ثم تحوّل بعد الاستقلال إلى أداة بيد النخب لا لخدمة المواطن بل لضبطه وإدارته.
اقتصاد ريعي مشوّه يعتمد على النفط والمساعدات الخارجية بدل الإنتاج، مما خلق علاقة زبائنية مَرَضية بين الدولة والمجتمع حيث تُوزّع الدولة الريع بدل أن تُبني عقدًا ضريبيًا ومواطنة فاعلة.
الكاتب الجزائري مالك بن نبي عبّر عن هذه المعضلة بدقة حين قال. إن المشكلة ليست في أننا استوردنا المنتجات الجاهزة من الغرب بل في أننا استوردنا الأفكار الجاهزة أيضًا. لقد استوردنا شكل الدولة دون روحها والقوانين دون الفلسفة التي أنشأتها.
من يحكم بعد الاستعمار؟
حين غادر المستعمر أرضنا لم يترك فراغًا بل سلّم السلطة إلى نُخبٍ وطنيةٍ تربّت في مدارسه وتشرّبت أدواته. كانت هذه النخب في معظمها امتدادًا للإدارة القديمة أكثر من كونها بديلاً عنها. فورثت أدوات السيطرة نفسها المركزية القمع والبيروقراطية المغلقة لكنها غلفتها بعباءة وطنية.
المفكر فرانز فانون كان نبيها حين كتب في معذبو الأرض البرجوازية الوطنية التي تخلف الاستعمار ستعيد إنتاج آلياته لكن بوجوه محلية. هكذا تحوّلت الدولة الوطنية إلى استعمار داخلي تمارسه النخب على شعوبها تحت شعارات السيادة والوحدة.
لنتخيل هذا المشهد الرمزي
المريض المجتمع بكل تنوعه وثرائه وتناقضاته.
المرض إرث استعماري من حدودٍ مصطنعة وهويةٍ ممزقة واقتصادٍ هش.
الطبيب الدولة الوطنية التي وُلدت لتحمي هذا الجسد لكنها ورثت أمراضه بدل أن تعالجه. المفارقة أن الطبيب نفسه مريض فهو
1.يرفض تشخيص الداء الحقيقي لأنه جزء منه.
2.يصف المسكنات بدل العلاج فيوزّع المنافع بدل بناء المؤسسات.
3.يلوم المريض على مرضه فيتهم الشعب بالطائفية والتخلف بينما هو الذي عمّق الانقسام.
لقد أصبحت الدولة في أغلب التجارب العربية عائقًا أمام الإصلاح بدل أن تكون أداته. فبدل أن تُداوي صارت تُعيد إنتاج المرض جيلاً بعد جيل.
ومع ذلك لا ينبغي أن يُفهم هذا التاريخ كقدرٍ حتمي. فالدولة الوطنية ليست مشروعًا فاشلاً بطبيعتها بل تجربة لم تكتمل بعد. إنها كيان في طور التشكل يحتاج إلى إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع بين السيادة والمواطنة.
وفي هذا السياق تبدو تجربة سوريا بعد عام 2025 مثيرة للاهتمام حيث تحاول الحكومة الانتقالية هناك إعادة بناء الدولة من الداخل عبر إدماج الفواعل المحلية وصياغة عقد سياسي جديد. ربما تمثل هذه التجربة رغم هشاشتها فرصة لإثبات أن الدولة يمكن أن تُصلح نفسها دون أن تنهار.
إنّ الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بعدد الأعلام ولا بطول النشيد بل بقدرة الدولة على أن تعكس إرادة مجتمعها لا إرادة من صنعها.
اسئلة السلسلة القادمة
في هذه السلسلة، نحاول أن نفكك أسباب فشل الدولة الوطنية عبر طرح أسئلة أكثر من تقديم إجابات
1.كيف يمكن لدولة أن تقوم على حدود لا تعكس واقع مجتمعاتها؟
2.لماذا فشلت النخب الوطنية في بناء عقد اجتماعي عادل؟
3.كيف تحوّل النفط من نعمة إلى نقمة على الديمقراطية والمواطنة؟
4.ما أثر الصراع على الهوية في تمزيق الدولة من الداخل؟
5.وهل نحن أمام ولادة نظام إقليمي جديد يعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط؟
في المقالة القادمة من هذه السلسلة سنعود إلى الجذور إلى تلك اللحظة التي تشكّل فيها الشرق الأوسط الحديث على الورق لا على الأرض: الجينات الاستعمارية كيف لا تزال اتفاقية سايكس بيكو تحكم مصيرنا؟
سنتتبع كيف تحوّلت الخرائط إلى مصائر، وكيف أصبحت الخطوط المستقيمة التي رسمها الدبلوماسيون الأوروبيون قبل قرن أساسًا لصراعاتنا حتى اليوم.
نحن لا نبحث عن الفاعل المذنب بل عن منطق الفشل نفسه.
فالقصة ليست مؤامرة خارجية خالصة ولا فسادًا داخليًا محضًا بل تشابك مصالح واختياراتٍ تاريخية لم تُصحَّح في وقتها.
لقد ظنّت شعوبنا أن الاستقلال يتحقق برحيل المستعمر فإذا به يعود إلينا في صورة مؤسساتنا وفي طريقتنا في التفكير بالحكم والسلطة. إن الاستعمار لم يكن مجرد وجودٍ عسكري بل كان وما زال نظامًا ذهنيًا وثقافيًا واقتصاديًا يستمر ما لم نكسره من الداخل.
الاستعمار لا ينتهي برحيل الجندي الأخير بل ينتهي حين نكتب عقدنا الاجتماعي بأنفسنا، بلغتنا وبعقلية تحررية حقيقية. هذه ليست نهاية التاريخ، بل بداية الوعي به.
فالرحلة ما زالت في بدايتها وما لم نواجه جذور المرض في تاريخنا السياسي، فلن نجد علاجًا في حاضرنا. ولهذا سنعود في المقالة القادمة إلى لحظة الميلاد الأولى لحظة سايكس بيكو حيث كُتبت جينات المرض الأول.
نُشرت هذه المقالة ضمن سلسلة فكرية بعنوان الطبيب والمريض فشل الدولة الوطنية وسؤال إعادة التأسيس


إرسال التعليق