عمار نجم الدين : الكيماوي المزعوم في دارفور: آخر أكاذيب الهزيمة قبل الانسحاب
“عاد النظام السابق عبر بوابة الحرب إلى الحكم في السودان بتواطؤ من قادة الجيش.. لن نسمح بذلك يحدث.. علينا الوقوف بحزم لمساندة التحول الديمقراطي للشعب السوداني.”
— مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأمريكي.
ظهور هذا التصريح مع انفجار حملة إعلامية قبل يوم واحد عن “استخدام سلاح كيماوي في دارفور” ليس صدفة. المشهد يُقرأ اليوم كعمل دعائي مخطط له، هدفه الأساسي تهيئة الرأي العام لتبرير قرار انسحاب وشيك لقوات الجيش من الإقليم — انسحاب لا يريد القادة أن يُسجّل في الكتب على أنه هزيمة ميدانية، لذلك يُعاد تسويقه على أنه قرار «أخلاقي» أو «إنساني». بخلق رواية مفادها أن المدنيين مهددون بأسلحة محظورة، يستطيع الجيش أن يعرض انسحابه كخطوة وقائية لحماية السكان، وبذلك يحوّل ما قد يكون استسلامًا أو انهيارًا لخطوط الإمداد إلى «إنقاذ إنساني» مصطنع.
لكن المنطق الميداني نفسه يكذّب الرواية: فالقوات التابعة للجيش في الفاشر محصورة داخل دائرة لا يتجاوز قطرها خمسة كيلومترات، أي ضمن نطاق لا يتعدى محيطه واحدًا وثلاثين كيلومترًا — مساحة ضيقة جدًا لا تتيح مناورة ولا دفاع فعلي. كيف يمكن في هذا الوضع المتداعي أن يستخدم الدعم السريع سلاحًا كيماويًا وهو الطرف المتقدم عسكريًا والمسيطر ميدانيًا؟ لا منطق في أن يضرب المنتصر مدينة يسيطر عليها أو أن يستخدم سلاحًا محرّمًا في لحظة تفوق. لذلك يصبح الخبر نفسه قرينة على أنه جزء من عملية تضليل استخباراتية تهدف إلى تبرير الانسحاب الوشيك للجيش من دارفور، وإلى تحويل هزيمته إلى مظهرٍ أخلاقيٍّ مصطنع. الرواية تُستخدم كأداة للهروب من المساءلة أمام المنظمات الدولية المنتشرة الآن في نيالا وزالنجي والجنينة، ومع دعوة تحالف تأسيس للأمم المتحدة للتحقيق في جرائم الحرب، يحاول الجيش استباق التحقيق عبر قصة “السلاح الكيماوي” ليخلط الأوراق ويظهر في صورة الضحية بدل الجاني.
في نفس الوقت، هناك سبب ثانٍ متلازم وقوي: محاولة بناء غطاء دبلوماسي يعيق مسارات المساءلة الدولية. مع وجود منظمات دولية في نيالا وزالنجي والجنينة، ودعوة تحالف تأسيس للأمم المتحدة لفتح تحقيق مستقل في جرائم الحرب، يدرك القائمون على المسرح أن أي انسحاب عادي سيُقارن بتقارير الميدان والشهود وأدلة الأقمار الصناعية. لذلك تُستخدم روايات الكارثة — بمنطق «نحن ضحايا همجيّة استخدمت أسلحة محرمة» — لتبديل وضعية المتهم إلى متضرر. بهذه الحركة يحاولون تحويل مسألة التحقيق من محاسبة أحادية الجانب إلى سجال متبادل، مما قد يعرقل أو يشتت تركيز لجان التحقيق ويربك المسارات القانونية والدولية.
المنشورات التي رُفعت أمس تفتقر إلى مصادر طبية أو شهود موثوقين، وتستخدم لغة عاطفية تهدف إلى زرع الخوف والضغط العاطفي أكثر من نقل معلومة موثوقة. هذا النمط من التضليل يلائم غرضين واضحين: تبييض الانسحاب أمام الجمهور الداخلي والخارجي، وإطالة أمد المناورة الدبلوماسية كي لا تُفرض عقوبات أو تُنجز تحقيقات سريعة وفعّالة. وفي ظل الفضاء الرقابي الدولي المعاصر، كل كذبة جديدة لا تُثبَت تُضعف موقف المنصّبين وتضيّق عليهم الخيارات بدل أن توسعها، لكنها قد تعطيهم وقتًا ثمينًا — وهذا ما يسعون إليه: وقت لإعادة تمركز القوات، إخلاء مواقع، وحماية بعض خطوط التوريد، قبل أن تواجههم آليات المحاسبة الدولية.
منطق القوة يقول إن المنتصر لا يلجأ للأسلحة المحرمة، ولا يبرر انتصاره بالدمار، لكن منطق التضليل هو أن الخاسر دائمًا يحاول اختراع كارثة تغطي سقوطه. ما يحدث الآن هو محاولة يائسة لإعادة كتابة الرواية قبل الانسحاب — لكن الفاشر الصغيرة، المحاصرة داخل دائرة لا يتجاوز محيطها واحدًا وثلاثين كيلومترًا، أصبحت شاهدًا على أن الكذبة لا يمكنها أن تتنفس في مساحة بهذا الضيق.
الخلاصة العملية واضحة: ما نراه ليس خبرًا محضًا عن جريمة مفترضة، بل مناورة تكتيكية ذات هدفين متوازيين — الأول تحويل الانسحاب إلى فعل مبرر أخلاقي أمام الجمهور، والثاني خلق غطاء دبلوماسي يعرقل أو يؤخر محاسبة فعلية على ما ارتُكب في دارفور. وفي مواجهة هذه المناورة، الطريق الوحيد لقطع المجال أمام التضليل هو توثيق الحقائق ميدانيًا بسرعة، ضغط المنظمات الدولية المتواصلة، وفتح تحقيقات مستقلة لا تلتفت إلى الضجيج الإعلامي وإنما تقيّم الأدلة. دارفور لا تحتاج إلى مزيد من الدعاية؛ تحتاج إلى تحقيقات حقيقية وشفافية تردّ الحكاية إلى نصابها.


إرسال التعليق