وطن لم يِؤسس على العدالة : هل من أمل في وحدة الجغرافيا ؟

نُكثر من الحديث عن وحدة الأرض والجغرافيا في السودان، وننادي بها في كل مناسبة، كأنها حقيقة راسخة لا تهتز .. لكننا نغفل عن سؤال جوهري : هل وُلد هذا الوطن أصلاً على أسس الوحدة ؟ أم أن تاريخه يحمل بذور تفككه منذ البداية ؟

في واقع الأمر، السودان الحديث لم يُؤسس كوطن موحّد، بل كوّنه تاريخ من الإستعباد الطبقي والإثني، وتجارة الرقيق التي كانت “القاسم المشترك لبناء السُلطة في المركز”، مما خلق تراتبية جعلت بعض المواطنين يمتلكون غيرهم، ويبررون ذلك باسم العُرف والدين والسياسة .. ومن رحم هذا التأسيس الظالم نشأت دولة ما بعد الاستعمار ..

فحين وطأت أقدام المستعمر البريطاني أرض السودان، لم يدخلها قسراً فحسب، بل فُتحت له الأبواب من بعض أبناء البلاد الذين رأوا فيه شريكاً .. ولم تكن مقاومة الإستعمار شاملة، بل كانت إنتقائية، وهو ما سهّل للمستعمر أن يُعيد هندسة الواقع الإجتماعي والسياسي بما يخدم مصالحه، فأسس نظاماً يحكم بإسم المركز ويُقصي الأطراف، ويُربّي نخباً وورثة يحملون أدواته ويتحدثون لغته حتى بعد رحيله ..

المستعمر ترك خلفه دولة صُمّمت لتخدم المركز وتُقصي الهامش .. فبقيت دارفور، والنيل الأزرق، وجبال النوبة، وشرق السودان، خارج معادلة التنمية والسُلطة .. ولم يتغير جوهر السُلطة، بل تغيّر فقط لونها ولسانها .. وعادت “المناطق المقفولة” في شكل جديد : تهميش تنموي، غياب للبنية التحتية، إقصاء سياسي، وصوت لا يُسمع ..

بإنفصال جنوب السودان ظن البعض أن المشكلة قد إنتهت، مع أن الإنفصال لم يكن سوى نتيجة طبيعية لمسار طويل من الإستعلاء والإقصاء، الذي لا يزال يهدد بقيّة الجغرافيا .. فإن لم نُراجع جذور هذا البناء الظالم ونقتلعه، سنشهد مزيداً من الانشطارات .. ليس لأن الناس تريد التمزق، بل لأنهم تعبوا من الانتظار والخذلان ..

هذا الواقع، أبرز دور “الوطنيين الحقيقيين” – أولئك الذين لا يختبئون خلف القبيلة أو الجهة أو الطائفة، بل آمنوا بعدالة الأرض لكل من يعيش عليها .. وكانوا في مقدمة الصفوف، يدافعون عن مشروع وطني جامع، يُعيد كتابة التاريخ لا لتبرير الظُلم بل لفهمه ومواجهته، وتأسيس لمستقبل لا يعاد فيه إنتاج طبقة فوق طبقة، أو مركز ضد هامش ..

وحدها العدالة الحقيقية من تعترف بالجميع كمواطنين متساوين، وتحفظ وحدة الجغرافيا وتحمي الوطن من السقوط في فخ “فرق تسد” مجدداً ..

وهنا تبرز مسؤوليتنا، نحن من نحمل هم الوطن في وجه هذا التاريخ المنحرف .. وليس المطلوب بناء دولة على أنقاض أخرى، بل تفكيك هذا الإرث الظالم، وإعادة تعريف السودان بوصفه وطناً لكل من يعيش فيه، لا إمتيازاً لمن ولد في مركزه ..

ونعلم بأن السبيل الوحيد لوحدة حقيقية هو أن نعيد تأسيس العقد الوطني على تفكيك التراتبية الطبقية والإثنية، التي لا تزال حاضرة في مؤسسات الدولة وخطابها .. وإعادة توزيع السُلطة والثروة بعدالة، تُنهي سيطرة المركز .. وإقرار المصالحة مع التاريخ، لا لنسيانه، بل لفهمه والإعتراف بضحاياه ..

وإما أن نختار مواجهته بشجاعة، ونبني على أنقاضه دولة عادلة، أو نستمر في تكرار المأساة بحذافيرها… حتى يتفتت ما تبقى من وطن ..

إرسال التعليق