ياسمين آدم المصري تكتب : نحو سودان متساوٍ: دروس من صمود الأطراف - صوت الوحدة

ياسمين آدم المصري تكتب : نحو سودان متساوٍ: دروس من صمود الأطراف

ما يحدث اليوم في كردفان ودارفور وجبال النوبة ليس مجرد قضية محلية محدودة التأثير، بل هو انعكاس مباشر لعمق الأزمة السودانية برمتها. هذه المناطق، التي تحملت لعقود طويلة تبعات السياسات المركزية، تتحول اليوم إلى منابر حقيقية للوعي الجمعي، وتوجّه رسائل واضحة لكل السودانيين من الشمال إلى الشرق والوسط أن مستقبل السودان لا يمكن أن يبنى على عقلية المركز المتحكم والأطراف التابعة، ولا على إدارة الخلافات بعقلية الترضيات المؤقتة التي لا تعالج جذور المشكلة.

لقد لعبت معظم قبائل هذه المناطق دورا محوريا في تاريخ السودان الحديث. فقد استدعوا مرارا لحمل السلاح والدفاع عن الدولة ضد من وقف في وجه السلطة المركزية. لكن المفارقة أنهم كانوا أول من دفع ثمن هذه السياسات، إذ تركت مناطقهم بلا خدمات حقيقية، وبلا تنمية، وبلا بنية تحتية تليق بتضحياتهم. هذه التجربة علمتهم درسا مهما خطاب التهميش التقليدي لم يقدم لهم سوى مزيد من الإقصاء، وهو الخطاب الذي أرادته الدولة للحفاظ على القدرة على تقسيم القضايا وتوزيع الترضيات.

اليوم، يظهر في هذه المناطق وعي جديد. لم يعد الخطاب منصبا على التظلم والمطالبة بالحقوق من موقع ضعف، بل أصبح خطابا واعيا ومنتفضا من أجل مستقبل أفضل. أهالي كل المناطق اللتي تأزمت من سلطة المركز يطالبون بمشروع وطني جامع يعالج جذور المشكلة دولة عادلة، مساواة في الحقوق، وتنمية متوازنة تشمل الجميع بلا تمييز.

هذه المطالب ليست فئوية، بل هي أساس أي دولة حديثة مستقرة قادرة على تجاوز الأزمات.
أحد أهم العقبات التي تعيق بناء السودان هو الأنانية، سواء كانت فردية أو جماعية، حزبية أو جهوية. هذه الأنانية هي التي جعلت بعض القوى تنظر إلى الوطن بعين ضيقة تحكمها المصالح الخاصة، وتغفل أن السودان لن ينهض إلا إذا آمن كل مواطن أن شريكه في الوطن له نفس الحقوق والواجبات. تجاوز هذه الأنانية هو الخطوة الأولى نحو صياغة عقد اجتماعي جديد يقوم على المساواة والعدالة لا على الامتيازات أو الترضيات المؤقتة.

الرسالة الجوهرية التي تبعثها هذه المناطق اليوم تقول بوضوح: لقد آن الأوان لنعمل كشركاء أصيلين في بناء المستقبل. هذه الدعوة ليست للانفصال أو للمواجهة، بل للتواضع والاعتراف بحق الجميع في المشاركة. المساواة لا تبنى فقط على نصوص الدستور، وإنما تبدأ من النفوس المؤمنه بي حق الاخر في الحياة الكريمة.

كل تطلعات هذه الشعوب تتلخص في مطلبين أساسيين سلام عادل وتنمية متوازنة. سلام يوقف نزيف الدم ويضمن العدالة للجميع، وتنمية تعيد توزيع الفرص وتفتح أبواب الأمل أمام الأجيال القادمة. هذه التطلعات لا تتحقق إذا ظل السودان أسيرا لعقلية الترضيات التي تدير الأزمات ولا تحلها.
الحل الحقيقي يكمن في بناء مشروع وطني شامل يعترف بالتنوع ويحوله من عامل صراع إلى مصدر قوة.

ما يحدث اليوم هناك في أقاصي السودان البعيد ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو نافذة أمل وفرصة تاريخية في آن واحد. إنه ناقوس خطر لأن تجاهل جذور المشكلة سيؤدي إلى مزيد من الحروب والانقسامات، ولكنه أيضا فرصة لبناء سودان جديد إذا استمعنا جيدا إلى رسائل الوعي. السودان أمام مفترق طرق إما أن نستمر في دوامة الصراعات، أو أن نتجاوز الأنانية ونضع أسس مشروع وطني جامع يضمن العدالة والتنمية لكل مواطن في كل بقعة من البلاد. والاختيار هذه المرة بيد كل السودانيين.

إرسال التعليق

لقد فاتك