الطيب علي (جلكامش) :البيان الرعوى: في سفر تكوين ثورة البوادي
المقدمة:
شبح شبح يخيم على سماء السودان، إنه شبح ثوار البوادي والدمر والقرى والفرقان، أو الجنجويد، وقد اتحدت جميع قوى الدولة القديمة: المرشد الأعلى للحركة الإسلامية، الجيش وقائده، الفلنقايات، جماعة أنصار السنة المحمدية، وعويلة الحزب الشيوعي؛ في طراد رهيب من أجل طرد هذا الشبح. وأي حزب معارض ذلك الذي لم يتم اتهامه بالجنجويدية؟ وأي حزب معارض ذلك الذي لم ينفي تهمة الجنجويدية الشائنة ويردها على خصومه الٱخرين؟ ومن هذا الواقع نستنج أمران؛ الأول، أن قوى السودان القديم، جميعها، أصبحت تعترف بالجنجويد كقوى فاعله في الاجتماع السياسي السوداني. أما الثاني فهو، أن الوقت حان، ليعرض الجنجويد أهدافهم وأفكارهم وتوجهاتهم وأن يواجهوا دعاية شبج الجنجويد ببيان رعوي، هو الذي بين أيديكم؛ يا جماهير الشعب السوداني.
الفصل الأول: قوى اجتماعية مهيمنة وأخرى مضطهدة:
إن تتبع تاريخ الصراع الاجتماعي على الثروة السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني الحديث، يكشف وبضوح، عن أن قوى اجتماعية سودانية مفردة، نعرفها في هذا البيان بـ [القوى الاجتماعية النهرية}، قد تطورت حصرا دون غيرها من بقية القوى الاجتماعية السودانية الأخرى، مستفيدة من الإمتيازات الاقتصادية والسياسية التي أمنها لها تحالفها مع القوى الاستعمارية في الحقبة الاستعمارية لأولى(1821-1881)م، والحقبة الاستعمارية الثانية (1898-1956)م. ما أطلق صيرورة تحديثها، حصرا دون غيرها من القوى الاجتماعية السودانية الأخرى؛ لتتنظم تدريجا في تشكيلات اقتصادية وسياسية حديثة، كانت قد بدأت بالظهور في نهاية الحقبة الاستعمارية الثانية؛ الأمر الذي مكنها من الهيمنة على بيروقراطية الدولة والسلطة السياسية بالتبع، عقب الاستقلال. ونؤكد هنا، أن الحقبة الاستعمارية الأولى 1821-1885م كانت لحظة انطلاق صيرورة تطور غير متكافئ بين أقاليم السودان والقوى الاجتماعية السوداينة المتباينة، والتي لها تاريخ تطور سياسي واقتصادي مستقل ومختلف عن بعضها حتى الحظة ما قبل 1821م، وذلك نظرا لغياب حكم مركزي موحد، يجمع هذه القوى الاجتماعية في دولة واحدة في جغرافيا السودان القديم تاريخا. ونستنتج من ذلك، أن القوى الاجتماعية النهرية، مستفيدة من علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة التي نشأت حول جهاز الدولة الحديث الذي أنشأه المستعمر في وسط-شمال السودان، قد تطورت وتحدثت لتتحول عبر تاريخ طويل لتصبح نواة الطبقات الرأسمالية الحديثة في السودان.
في مقابل هذا التحديث المتسارع للقوى الاجتماعية النهرية نتيجة تحالف مع القوى الاستعمارية، ظلت القوى الاجتماعية السودانية الأخرى، مثل كل من القوى الاجتماعية الأفريقية والقوى الاجتماعية الرعوية العربية في دارفور وكردفان، والقوى الاجتماعية البجاوية في شرق السودان، والقوى الاجتماعية الفونجية بالنيل الأزرق؛ جميعها تعيش في ظل أنماط إنتاج علاقات إنتاج ما قبل رأسمالية، تسخر اقتصادتها من أجل خدمة اقتصاد الطبقات الرأسمالية النهرية المتنامية؛ ما خلق تطورا تنمويا غير متكافئ. ولعل كل التغيرات المصاحبة لهذا التطور التاريخي كانت تؤكد أن أفقا جديدا للصراع الاجتماعي قد برز في السودان، ذلك أن هيمنة القوى الاجتماعية النهرية على بيروقراطية الدولة عقب الاستقلال وهيمنتها السابقة على رأس المال المحلي عن طريق الاستفادة من علاقات الإنتاج الاستعمارية، كانت تشير إلى أن وجود نموذج تراكم اقتصادي يخدم المصالح الحيوية لهذه القوى الاجتماعية النهرية حصرا، في حين يفقر هذا النموذج جميع القوى الاجتماعية السودانية الأخرى ويحول جغرافياتها السياسية والاقتصادية إلى توابع وهوامش لمركز سياسي واقتصادي نهري جديد عاصمته الخرطوم. نتيجة لذلك، كان لابد للصراع الاجتماعي أن يتصاعد إلى مستويات غير مسبوقة عقب الاستقلال؛ تمخضت عن حروب حروب أهلية وسياسية وحالة من عدم الاستقرار السياسي حتى قبل ذلك بعام في 1955م، توجت بالنهاية بانفصلال الجنوب في 2011، وحرب 15 ابريل الحالية؛ والتي يمكن أن تفهم جميعا كثورات ضد النظام السياسي الحديث للقوى الاجتماعية النهرية، والذي نسميه في هذا البيان بـ [دولة {56}].
استنادا إلى هذه الملاحظات التاريخية المهمة، نؤكد أن تاريخ السودان الحديث، ومنذ تأسسهة كأفق سياسي جديد للصراع في عام 1821م، هو تاريخ صراعات اجتماعية دامية متطاولة، كانت دائما ما تتمظهر في تناحرات اجتماعية عنيفة بين قبائل، وأعراق، وأديان وجغرافيات، وفي انتفاضات وثورات سياسية سلمية مسلحة، الأمر الذي يشير إلى وجود مسار تطور إشكالي للدولة الحديثة في السودان. ونؤكد في هذا الصدد، أن تداخل العوامل الدينية والإثنية والعرقية في الصراع الاجتماعي على الثورة والسلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني الحديث، يمنعنا من تعريفه على أنه صراع بين بورجوازية وبروليتاريتا، وفقا للنموذج الماركسي الكلاسيكي؛ ذلك أن الشروط الاجتماعية في السودان لم تصل بعد درجة التطور الرأسمالي التي تسمح بظهور طبقات بورجوازية وعمالية متمايزة.. لكن، الرغم من صحة هذه الملاحظة، إلا أنه لا يمكننا أيضا أن ننفي وجود هذه الطبقات في أطوار غير مكتملة، خاصة في المدن الرئيسية التي بها بنية تحتية صناعية، مثل الخرطوم وعطبرة. ونؤكد هنا أيضا، أن التطور نموذج التطور التنموي غير المتكافئ الذي أنشأه المستعمر في السودان، قد حصر تطور هذه الطبقات الرأسمالية الحديثة في القوى الاجتماعية النهرية، لتنشأ وتتطور منها حصرا أيضا، تشكيلات اقتصادية سياسية حديثة تمظهرت تاريخيا في الطبقات الوسطى والرأسمالية والبورجوازية المدينية والأحزاب السياسية والمجتمع المدني الحديث والجماعات النقابية التي ظهرت قبيل الاستقلال. كل هذه المتغيرات، خاصة تبلور تشكيلات سياسية حديثة من هذه القوى الاجتماعية النهرية، مكنتها من الهيمنة على جهاز الدولة البيروقراطية عقب الاستقلال. في المقابل، ظلت القوى الاجتماعية السودانية الأخرى في الهامش، خاصة القوى الاجتماعية الرعوية، مهمشة وعرضة للعسكرة لصالح الدولة، فيما تمردت القوى الاجتماعية الأفريقية في غرب السودان وجنوبه، إضافة إلى القوى الاجتماعية البجاوية في شرق السودان، إلا أنها جميعا لم تتمكن من خلخلة النظام السياسي الذي تتبادل فيه التشكيلات السياسية للقوى الاجتماعية النهرية الهيمنة. استناد إلى ذلك، نوصف الصراع الاجتماعي على الثروة والسلطة في السودان بأنه ليس صراعا بين بورجوازية وبروليتاربا، وإنما صراعا بين بين قوى اجتماعية مضطِهدة، هي القوى الاجتماعية النهرية، وأخرى مضطٓهدة، هي القوى الاجتماعية السودانية في هوامش السودان، في نظام اقتصادي هجين؛ وبعبارة أدق، بين قوى حديثة وأخرى تقليدية.
نخلص من كل ذلك أيضا إلى أن الصراع الاجتماعي في السودان عقب الاستقلال قد اتخذ مستويين رئسيين، يشكلان إطارا عاما يتم داخله الصراع على الثروة والسلطة. الأول نسميه مستوى الصراع الفوقي، الذي يتميز بوجود تناقض ثانوي بين التشكيلات الاجتماعية المتصارعة. ونشير إلى أننا نعرف صراع ما بأنه فوقي عندما يكون بين تشكيلات من نفس القوى الاجتماعية، ذلك أن كون هذه التشكيلات من نفس القوى الاجتماعية يعني أنها تتشارك نفس المصالح الاجتماعية العليا، ما يخفف حدة الصراع بينها ويجعله فوقيا. مثالا على ذلك، نعرف الصراع التاريخي بين التشكيلات السياسية الحديثة للقوى الاجتماعية النهرية من أجل الهيمنة على بيروقراطية الدولة والسلطة السياسية في دولة {56}، بأنه صراع فوقي نظرا لوجود تناقض ثانوي بين هذه التشكيلات. أما المستوى الثاني للصراع الاجتماعي في السودان، فهو الصراع الجذري، الذي يتميز بوجود تناقض رئيسي بين التشكيلات السياسية المتصارعة. ونؤكد هنا، أننا نصف صراعا ما بأنه جذري عندما يكون بين قوى اجتماعية مستفيدة تاريخيا نموذج تراكم رأس المال وجهاز الدولة وبالتبع مهيمنة، وقوى اجتماعية غير مستفيدة تاريخيا من هذا النموذج وجهاز دولته، ومضطهدة.
الفصل الثاني: قوى اجتماعية ثورية وأخرى إصلاحية.
استنادا إلى التوصيفات السابقة للصراع، نؤكد أننا ننعرف قوى اجتماعية ما بأنها ثورية، وفقا لنموذجنا التفسيري هنا، بالنظر إلى كونها غير مستفيدة من نموذج تراكم رأس المال السائد وجهاز الدولة الذي يحميه، كما أن الثورة تصبح، وفقا لهذا التحليل، حراكا عنيفا لقوى اجتماعية مضطهدة في ظل نمط الإنتاج وعلاقات إنتاجه وجهاز دولته، يؤدي إلى تغيرات جذرية في بنية المجتمع، إما بتمخض هذا الصراع الاجتماعي عن وضع جديد أو فناء كلا الطبقتين المتصارعتين، إذا ما استلفنا مقولة كارل ماركس. نشير هنا أيضا، إلى أن كل قوى اجتماعية يمكن أن تكون ثورية وإصلاحية، لكن ليس في نفس المجتمع، فعلى سبيل المثال كانت الطبقات البورجوازية ثورية في فترة نهاية النظام الاقطاعي، ذلك أن موقعها في تلك الحقبة كان من بين الطبقات المضطهدة، حيث كانوا أقنانا وعبيدا محررين لحظتها، لهم مصلحة حقيقة في التغيير، هذا في حين كانت مصلحة الاقطاع في بقاء الأوضاع كما هي. لكن، فيما بعد، وعقب لحظة تشكل النظام الرأسمالي، تحولت ذات الطبقات البورجوازية إلى الطبقات المستفيدة من علاقات الإنتاج الرأسمالي السائدة، وإلى طبقات إصلاحية بالتبع، نظرا لأن نموذج تراكم رأس المال وجهاز دولته وبالتبع النظام السياسي في النظام الرأسمالي يمثلها، ومصلحها الاجتماعية العليا.
في السياق السوداني، نلاحظ أن موقع القوى الاجتماعية العربية الرعوية، التي تمثل قوات الدعم السريع مصالحها الاجتماعية العليا، كان من بين الطبقات غير المستفيدة تاريخيا من نموذج تراكم رأس المال وجهاز الدولة في السودان؛ كما أن الدولة، مستقلة شروطها الاجتماعية، التي اتخذت شكل صراع اجتماعي عنيف مع القوى الأفريقية في كردفان ودارفور، عملت بشكل ممنهج على عسكرتها في مليشيات مسلحة وقوات نظامية، من أجل حماية النظام السياسي القائم، أو دولة {56}، من انتفاضات تمردات وثورات القوى الاجتماعية الأفريقية في الهامش. في المقابل، مدفوعة بمخاوف وجودية من الحراك المسلح للقوى الاجتماعية الأفريقية بكردفان ودارفور، تعسكرت هذه المجتمعات لصالح الدولة. ونؤكد هنا، أن القوى الاجتماعية العربية الرعوية ظلت في تناقض رئيس مع القوى الاجتماعية النهرية حتى وإن تحالفت معها سياسيا مرحليا وقبلت التعسكر لصالح الدولة؛ ذلك أنها، وفقا لنموذجنا التفسيري، ليست مستفيدة من نموذج تراكم رأس المال وجهاز الدولة، وبالتالي ليست دولتها كقوى اجتماعية، وإنما دولة إمتيازات القوى الاجتماعية النهرية. نؤكد استنادا إلى ذلك، أن القوى الاجتماعية الرعوية قد تعسكرت لصالح الدولة مدفوعة بمصالحها الاجتماعية العليا، وليس دفاعا عن الدولة فقط كما يبدو ظاهريا.
جدير بالذكر هنا، أن بداية تكشف التناقض الرئيسي بين قوات الدعم السريع والقوى الاجتماعية الرعوية من جهة، والجيش والقوى الاجتماعية النهرية من جهة أخرى، قد بدأ في عقب ثورة ديسمبر 2018م، نظرا لأن تحالفا سياسيا تاريخيا بين القيادة السياسية التقليدية للقوى الاجتماعية الرعوية، خاصة الإدارات الأهلية، والقيادة السياسية للقوى الاحتماعية النهرية ممثلة في الجيش والأحزاب الحاكمة تاريخيا؛ كان يبقي هذا التناقض الرئيسي مخفيا. وحتى أكون مفهوما بشكل أفضل، أشير هنا إلى أن تمرد المجتمعات الأفريقي وإنتظامها في حراك مسلح في العام 2003م بدارفور، لم يكن مهددا للدولة فقط، وإنما لمصالح الاجتماعية العليا للمجتمعات العربية بدارفور بدرجة أولى؛ وهو ما دفق القيادة السياسية للقوى الاجتماعية الرعوية إلى التحالف سياسيا مع الدولة من أجل حماية مصالحها الاجتماعية العليا. وهو التحالف السياسي الذي أدى إلى نجاح الدولة في عسكرة المجتمعات العربية بدارفور وكردفان بشكل ممنهج، حتى توجت عمليات العسكرة هذه نهاية بإنشاء قوات الدعم السريع التي يتجاوز أعداد مقاتليها 100ألف مقاتل قبل الحرب. ونشير هنا إلى أن قوات الدعم السريع كانت، حتى اليوم الذي سبق 24 ديسمبر 2018م، عندما أعلن قائدها وقائد ثوار وثورة البوادي فيما بعد، الفريق أول محمد حمدان دقلو، في خطاب شهير رفضة المشاركة في فض التظاهرات السليمة لثورة ديسمبر 2018م؛ كانت ، ممثلة لمصالح القوى الاجتماعية النهرية أكثر من كونها ممثلة لمصالح القوى الاجتماعية الرعوية ، ذلك أنها كانت تدافع عن دولة {56} وليس عن مصالح القوى الاجتماعية الرعوية. لكن في ذلك اليوم، الذي أعلن فيه قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول، محمد حمدان دقلو، عن دعمه للتغيير، حدث متغير تاريخي مهم، ألا وهو أن أصبح لقوات الدعم السريع خطابا سياسيا. ليس هذا فحسب، بل أصبح إنه خاطب سايسي ثوري يدعم التغيير وثورة ديسمبر 2018م.
إن ما نؤكده هنا، أن موقف قائد قوات الدعم السريع الداعم لثورة ديسمبر 2018م، قد جعله في تناقض رئيسي مع الجيش والحركة الإسلامية اللذين يمثلان النظام القديم. نتيجة لذلك، بدأ التحالف السياسي بين القيادة السياسية للقوى الاجتماعية النهرية وقيادة الجيش، والذي نشأ عنه الدعم السريع، بالانهيار، وبالتبع بداية تكشف التناقض الرئيسي بين القوى الاجتماعية الرعوية والقوى الاجتماعية النهرية؛ فأصبح هنالك أفق صدام بين الجيش والدعم السريع؛ وهو ما أجبر النظام الإسلامي على الانقسام والتضحية بالصف الأول من قيادته خوفا من حدوث مواجه عسكرية مع قوات الدعم السريع في 11 أبريل 2019. لحظتها أيضا، بدأت قوات الدعم السريع في التحول من قوات عسكرية سلطوية إلى قوات عسكرية ثورية، ذلك أن موقف قائدها الطبقي قد تغيير، حيث أنه وبدلا من أن يكون داعما للطبقات الحاكمة تاريخيا ونظامها السياسي كما كان سابقا، قد تحول إلى داعم رئيس للثورة التي تعني ما بين ما تعني تغييرا حقيقيا. نستنتج استنادا إلى ذلك، أن الموقف الطبقي لقائد قوات الدعم السريع، وفقا للقاموس الماركسي، قد أصبح ثوريا وبالتالي معبرا عن مصالح للقوى الاجتماعية الرعوية التي ينتمي إليها وبالتبع موقعه الطبقي في الصراع. عقب ذلك، ساهم انقلاب 25أكتوبر2021م، وإلى حد كبير، في كشف هذا التناقض الرئيس المكان الذي كان كامنا لعقود؛ ذلك أن الخلاف السياسي بين القوتين قد تعزز عقب أن أعلن قاىد الدعم السريع- نائب رئيس مجلس السيادة وقتها- أن هذه الإجراءات هي انقلاب عسكري بقيادة عناصر النظام السابق للحركة الإسلامية، واعتذر عن المشاركة في هذا الانقلاب، الأمر الذي وضعه في مواجه مباشرة مع الجيش الذي تهيمن عليه الحركة الإسلامية. تاليا، تعمق الخلاف السياسي بين الدعم السريع والجيش بشكل أكبر مع لحظة الاتفاق الإطاري 2023م، التي مثلت نقطة اللاعودة، ذلك أنه مثل وثيقة انتقالية تمهد لتغيير حقيقي في البلاد وتستأنف المسار الثوري الذي قطعه انقلاب 25 أكتوبر . نتيجة ذلك، تصاعد التناقض الرئيسي بين القوتين ليصل نقطة اللاعودة، عقب أن وقع قائد الزعم السريع على الاتفاق، فيما رفض قائد الجيش ذلك، لتصبح المواجهة حتمية.
استنادا إلى الملاحظات أعلاه، نؤكد أن لحظة ديسمبر 2019م، كانت لحظة فارقة في تاريخ السودان، ذلك أنها مثلت لحظة تكشف التناقض الرئيسي بين الدعم السريع والجيش، حيث حولت الدعم السريع، إلى موقع الحامل الثوري لمشعل التغيير، وذلك ما يبرر القضاء عليه من قبل القوى الاحتماعية النهرية. في 15 أبريل تفجر التناقض الرئيسي الذي كان كامنا بين القوى الاجتماعية الرعوية والقوى الاحتماعبة النهرية، عقب أن شرع كل من الجيش والحركة الإسلامية في تنفيذ خطتهما للقضاء على الدعم السريع. لكن، لم تكن قيادة الجيش والحركة الإسلامية مدركة لحركة التاريخ التي كانت تشير إلى إمكان حدوث ثورة مسلحة جذرية في حال محاولتهم القضاء على الدعم السريع ؛ ذلك أن مهاجمة الجيش لقوات الدعم السريع صباح 15 أبريل 2023، كانت تعني أن المعركة ستتحول مباشرة من كونها بين مؤسستين عسكريتين إلى صراع مفتوح بين قوى اجتماعية؛ وذلك ما يفسر جخافل الفزع التي وفدت إلى الخرطوم من القوى الاجتماعية الرعوية، من أجل مناصرة الدعم السريع مباشرة عقب اندلاع الحرب.
ونؤكد هنا، أن قابلية الدعم السريع للتحول إلى قوة ثورية، كانت تكمن في كونه يمثل أيضا ثورة داخل البنى التقليدية للقوى الاجتماعية الرعوية؛ ذلك أن تسليح الدولة لجماعات مهمشة، وبالتالي جماعات في تناقض رئيسي معاها، كان يعني أنها تطلق عن طريق ذلك صيرورة تشكل قيادات سياسية حديثة لهذه المجتمعات، تسحب تدريجيا التمثيل السياسي من الإدارات الأهلية، ومعها الشباب والقوى الاجتماعية الحية الأخرى؛ وهو ما أدى بالنهاية إلى انهيار التحالف السياسي بين القيادة السياسية للقوى الاجتماعية الرعوية والقوى الاجتماعبة النهرية، الذي كان يخفي التناقض الرئيس بين هذه القوى الاجتماعية والدولة ويبقيه ساكنا. بإختصار هنا، نؤكد أن ما تبقى من الوضعية التاريخية للجيش ليس مهددا من قبل الدعم السريع فقط، وإنما حتى من قبل الجماعات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش في وسط وشرق وغرب السودان، ذلك أن الوضع المتردي الذي يعيشه الجيش حاليا والذي يجعله في حاجة ماسة إلى خلق مزيد من المليشيات، كان أصلا قد نشأ نتيجة ما نسميه بسياسة المليشيات، وهي السياسة التي نعرفها بأنها لجوء الجيش إلى تنظيم وتدريب وتسيلح مجتمعات مهمشة من أجل مساندتها في قتال مجتمعات بتدأت تتنظم وتتسلح في حراك سياسي مطلبي. وإذا ما جاز لنا استعارة عبارة لفيلسوف التاريخ والإقتصادي الألماني، كارل ماركس، وإن بتحريف، فيمكن أن نقول، إنه وفي اللحظة التي بدأت فيها دولة (56) بتسليح فيها القوى الاجتماعية الرعوية بغرب السودان في العام 2003، كانت بذلك تخلق حفاري قبرها، وتسلمهم المعاول”، ذلك أن هذه المجتمعات لم تحمل السلاح من أجل حماية الدولة التي لا تستفيد منها، وإنما من أجل حماية نفسها ومصالحها العليا بشكل رئيسي؛ وهو ما يعني أن الجيش وبتسليحه للمليشيات التي تقاتل إلى جانبه حاليا، يخلق أيضا حفاري قبره الأخرين، والذين هم قوات دعم سريع أخرى قادمة، تهدد ما تبقى من وضعيته التاريخية.
الفصل الثالث؛ في ثورة البوادي
إن اكتساب قوات الدعم السريع لوضعية الحامل الموضوعي للثورة السودانية، عقب حرب 15 أبريل، تؤكده مسألتان مهمتان. الأولى هي أن قتال قوات الدعم السريع لجيش الدولة، الذي يمثل الحامي التاريخي للحكم الاحتكاري لللقوى الاجتماعية النهرية، قد خلق الأرضية التي يمكن لقوات الدعم السريع عبرها أن تتؤسس تحالفات سياسية وعسكرية مع القوى الاجتماعية المهمشة التي تشاركها نفس الشرط الاجتماعي. ونلاحظ أن ذلك قد تمظهر، عقب حرب 15 أبريل في التحالف السياسي الذي تم بين القوى الاجتماعية الرعوية، التي تمثل ثوار البوادي، والقوى الاجتماعية الأفريقية التي ثارت سابقا على الدولة، خاصة الحركة الشعبية بجنوب كردفان والنيل الأزرق، وعددا من الفصائل المسلحة من القوى الاجتماعية الأفريقية بكردفان ودارفور، التي كانت تقاتلها الدعم السريع سابقا. وبعبارة أدق، تخلق الوضعية الثورية الجديدة لقوات الدعم السريع شروطا موضوعية لنشوء جبهة ثورية عريضة من قوى اجتماعية متباينة ولكنها تشترك في وجود تناقض رئيس بينها وبين الدولة، هدفه تحطيم جهاز الدولة القديم وتأسيس جهاز دولة جديد وبديل؛ وهي الجبهة التي بدأت بالتشكل في تحالف السودان التأسيسي والتي توجت في حكومة الوحدة والتأسيس التي تم إعلانها في يوليو 2025م. ولعل ذلك ما يؤكد انتفاء الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية للقوى الاجتماعية النهرية، عبر جهاز الدولة القديم، في جغرافيا غرب السودان.. ليس هذا فحسب، بل نلاحظ أن مؤسسات سياسية واقتصادية وثقافية جديدة تتبلور تدريجيا، نرجح أن ينتج عنها جهاز دولة جديد في هذه الجغرافيا. ونستنتج من ذلك، أن ثورية قوات الدعم السريع لا تكمن في قدرتها على دك الدولة فحسب، بل أيضا في قدرتها على خلق مجتمع سياسي ومدني بديل، يتشكل بالتوازي مع فعله الثوري. استنادا إلى هذا التحليل وؤكد أيضا، أن دولة {56} لم تسقط في جغرافيا وسط-وشمال السودان، بل حتى أنها أبدت مقاومة شرسة للسقوط هناك، كما حدث في سنار والجزيرة والخرطوم. نظرا لوجود مجتمع سياسي ومدني قوى للقوى الاجتماعية في جغرافيا سنار التاريخية، الذي كان بمثابة دعامتها الرئيسية عقب دكها من قبل ثوار البوادي.
نشير في ذات السياق إلى أن المسألة الثانية التي تؤكد تحول الدعم السريع إلى وضع الحامل الموضوعي للثورة في، فهي انتفاء أفق ثورة ديسمبر وبروز أفق ثوري جديد، بانتفاء التناقض الثانوي بين ثوار المدن، الذين كانوا القوى الرئيسية في ديسمبر2018م، ومجاهدي الحركة الإسلامية أو النظام القديم، خاصة اليساريين منهم؛ للدرجة التي أصبح فيها من الصعب التمييز بين الشيوعي والإسلامي منهم عقب حرب 15 أبريل. ونحن نحاجج هنا، على أن أفق ديسمبر 2018م كان أفقا إصلاحيا، على النقيض من هذا الأفق الثوري الجديد، نظرا لأن ديسمبر نفسها، كانت تمثل صراعا اجتماعيا فوقيا، ذلك ألا وجود لتناقض رئيسي بين ثوار المدن ومجاهدي الحركة الإسلامية لأنهما يتشاركان الخلفية الاجتماعية وبالتبع المصالح الاجتماعية العليا؛ حيث يعود كلاهما اجتماعيا إلى القوى الاجتماعية النهرية، وهو ما يجعلهما في تناقض ثانوي مع بعضهما كتشكيلات سياسية؛ وفي تناقض رئيسي، بوصفهما من نفس القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة سياسيا، مع القوى الاجتماعية السودانية الأخرى المهمشة، خاصة القوى الاجتماعية الرعوية التي دكت الدولة. ونؤكدا هنا، أن ثوار المدن قد أدركوا لحظة 15 أبريل، وبحسرة شديدة، وبينما يشاهدون ثوارا البوادي والقرى والفرقان يدكون دولة {56} وجيشها، أنها دولة أمتيازاتهم كطبقات مدينية حديثة وأنه جيشهم هم بالذات ؛ فما كان إلا أن تطايرات من رؤوسهم الأيديولوجيات، التي كانت تقسمهم إلى يمينيين ويساريين، بنتفاء التناقض الثانوي الذي كان بينهم، فأصبحوا بين ليلة وضحاها يقاتلون في خندق واحد، دفاعا عن جيش الدولة كما يدعون، لا فرق بين شيوعييهم وإسلامييهم. لكنهم، وحسبما ندعي نحن، يقاتلون في خندق واحد دفاعا عن جيش دولة {56}، أو عن دولة إمتيازاتهم. ونؤكد أن ذلك يتأتى من أن ثوار البوادي والقرى والفرقان قد هددوا وجودهم كقوى اجتماعية نهرية بدكهم لدولتهم، دولة {56}. ونقول هنا، ألا فرق بين الشيوعي والإسلامي عقب 15 أبريل نظرا لأن، “أم الكلب بعشوم” كما يقول المثل الرعوي.
استناد إلى هذه الملاحظات، نقرر هنا أن أفق ثورة ديسمبر المديني وثواره المدنيين قد انزاح لصالح أفق ثوري جديد، هو أفوق ريفي رعوي، وثوار جدد، هم ثوار البوادي والقرى والفرقان، ذلك أن القوى الاجتماعية الرئيسية في ثورة ديسمبر 2018م كانت جماعات ثوار المدن، أبناء الطبقات الوسطى والبورجوازية والرأسمالية. وبعبارة أدق، الطبقات المستفيدة تاريخيا من نموذج تراكم رأس المال وجهاز الدولة في السودان، ومن هنا انتهاءها إلى التحول إلى مشروع سياسي إصلاحي عقب انحصار الفعل الثوري لها في تظاهرات احتجاجية في المدن الكبرى، بانحسار دعم المجتمعات التقليدية في هوامش السودان، والتي كانت تجعل مطالب الثورة جذرية بالنظر إلى أن هذه المجتمعات مهمشة ومصلحتها في حدوث تغيرات جذرية في بنية السلطة. وعلى هذا نقرر، أن فشل ثوار المدن والأحزاب السياسية الحديثة -المعارضة الداخلية لدولة {55}، أو القيادة السياسية لثورة ديسمبر 2018م، في إنجاز تغيير حقيقي في بنية السلطة يرجع إلى أنها وقيادة النظام الإسلامي ينتميان اجتماعيا إلى البورجوازية المدينية، المستفيد الرئيس من نموذج تراكم رأس المال في السودان؛ الأمر الذي يعني أن هنالك تناقضا ثانويا بين ثوار المدن هؤلاء والنظام السياسي المهمين على جهاز الدولة ومؤسستها، وهو تناقض يكفي فقط لتأسيس ممارسة سياسية تهدف إلى إحداث إصلاحات في بنية النظام السياسي، لا إلى ممارسة سياسية ثورية، وهذا هو السبب الرئيس فشل أحزاب الحرية والتغيير المجلس المركزي في إحداث تغييرات جذربة عقب توقيع الوثيقة الدستورية، التي أفضت إلى تشكيل حكومة الثورة بقيادة عبد الله حمدوك.
نستنتج من كل ذلك، أن هذا الأفق الثوري الجديد، الذي نسميه بثورة البوادي والقرى والفرق، يقطع مع أفق ثورة ديسمبر 2018م المديني، الذي فشل في إحداث تغيير جذري في بنية السلطة، من ناحية أخرى إلا وهي، تحول الصراع الاجتماعي داخل الاجتماع السياسي السوداني من المستوى الصراع الفوقي، الذي تتصارع ضمنه التشكيلات السياسية من القوى الاجتماعية النهرية الهيمنة فيما بينها على السلطة السياسية في دولة (56)، إلى مستوى الصراع الجذري، الذي تتصارع فيه قوى اجتماعية مهمشة مع القوى الاجتماعية النهرية الهيمنة على جهاز الدولة. ويتمظهر ذلك بشكل رئيسي، في جذرية ثوار البوادي والقرى والفرقان، القوى الاجتماعية الحية للثورة، تجاه الدولة عقب حرب 15 أبريل، حيث دكوا الدولة القديمة عسكريا، كما أن خطابا ثوريا تحشيديا قد ظهر ليعمل كسردية ثورية تؤطر جحافل الثوار ساكني بيوت القش والخيام والقطاطي، في فعل ثوري منظم. ونؤكد أن ذلك يعود بدرجة أولى إلى أن قوات الدعم السريع تنتمي اجتماعيا إلى قوى اجتماعية مهمشة وفي تناقض رئيس مع الدولة، حيث أن ثوار البوادي لم يستفيدو منها تاريخيا إلا البندقية التي يقاتلونها بها، على العكس من ثوار المدن، الذين كان موقعهم الطبقي، أي كونهم طبقات مستفيدة تاريخيا من جهاز الدولة، يحتم عليهم تبنى موقف اجتماعي إصلاحي. استنادا إلى هذه الملاحظات نقرر أن هذا الأفق الجديد الذي نسمية بثورة البوادي، وهو أفق ثوري لمجتمعات في تناقض رئيسي مع الدولة، ومن هنا جذريته، هذا في حين مثلت ديسمبر 2018م أفقا ثوريا للمجتمعات السودانية الحديثة، ومن هنا نزوعها إصلاحي.
من ناحية أخرى، يختلف هذا الأفق الثوري الرعوي عن أفق ديسمبر المديني من حيث طبيعة الفعل الثوري ذاته، حيث نلاحظ أن الفعل الثوري لثوار المدن كان يتم عن طريق الانتظام في جماعات سياسية ومدنية حديثة مثل الأحزاب السياسية ولجان المقاومة، البنى التي لا يمكن أن توجد إلا في المدن الكبرى وبين الطبقات الاقتصادية الحديثة، نظرا لأن بنى المجتمع التقليدية لم تتطور وتتحدث بعد في الريف حتى تطور منها تشكيلات سياسية حديثة. في مقابل ذلك، يتم الفعل الثوري لثوار البوادي عن طريق الانتظام في الدعم السريع عبر جماعات سياسية ومدنية تقليدية مثل القبيلة، العشيرة؛ وهذا ما يفسر تضاعف أعداد مقتالي قوات الدعم السريع عدة مرات عقب الحرب. ونؤكد هنا وذلك ما يؤكد أيضا أن الدعم السريع لا يمثل ثورة جذرية بالنظر إلى ما فرضه من متغيرات كبرى داخل الاجتماع السياسي فحسب، بل حتى بالنظر إلى قابليته لتأطير كتل اجتماعية تقليدية في فعل ثوري منظم.
الخاتمة؛
إننا نرجح أن يثير عويلة دولة {56} الٱفلة، حججا أخلاقية، تتصل بقضايا الانتهاكات، في وجه بياننا هذا، الذي نعرف فيه حرب 15 أبريل بأنها أفق ثوري جديد للقوى الاجتماعية المهمشة تاريخيا، ضد الهيمنة الاحتكارية للقوى الاجتماعية النهرية المدينية؛ حيث أن كثير من مثقفي القوى الاجتماعية النهرية، المهيمنين أيضا على الأكاديميا السودانية، ينفون أي مشروعية اجتماعية للفعل السياسي لقوات الدعم السريع بججة قضية الانتهاكات هذه. وقطعا للطريق عليهم، نقول ، إن هذا البيان الرعوي لا يبرر أي انتهاكات، خاصة جرائم النهب والسلب والقتل والتشريد التي تنسب لقوات الدعم السريع، أو أي جهة أخرى كانت، ذلك أننا في معرض تحليل وتوصيف لا إصدار أحكام أخلاقية على وقائع جزئية، كما أن البيان ينشد توصيف الواقع الماثل لا الحكم عليه. لكن، لابد لعويلة ومثقفي دولة (56) أن يستوعبوا أيضا، أن هذه الانتهاكات المصاحبة لحرب 15 أبريل ، خاصة عمليات السلب والنهب التي يشيرون إليها دائما، ، تؤكد أنها هذه الحرب، هي حرب قوى اجتماعية، ذلك أنها لا تحدث من قبل جهة واحد وإنما من كل الجهات الفاعلة في هذه الحرب، حتى المواطنين؛ كما أنها تشير إلى أن الطبقات الفقيرة التي كانت تسكن الأحياء الطرفية قد جردت الطبقات الرأسمالية والوسطى من معظم ثروتها. كما أن عليهم أن يدركوا أيضا أن هذه الانتهاكات تأتي كأرهاصات لانهيار الدولة، وعدم مقدرتها على ضبط الصراع الاجتماعي، ما يعني انفراط العقد الاجتماعي وتفسخ الروابط الاجتماعية التي كانت تحفظ النظام. وهنا لابد أن نقول لهم مقتبسين بورخيس، “إن السيف الذي قطع رأس والدي يظل جميلا رغم ذلك”؛ والقصد أن هذه الانتهاكات واسعة النطاق، تؤكد أن ما ذهبنا إليه من أنها 15 أبريل أفق ثوري؛ ذلك أن كل ثورة، هي في جانب منها، فعل أعمى يؤدي إلى انهيار النظام القائم.
ختاما نقول، إن على عويلة دولة (56) أن يدركوا أيضا، أن ثورة البوادي والقرى والفرقات، ليست مجرد فعل سياسي هدام، بل هي فعل اجتماعي بناء في جانب منها، خاصة وأن حكومة جديدة، وبالتبع سلطة جديدة، قد بتدأت بالتشكل في غرب السودان؛ وهو ما يشير، ليس فحسب إلى انهيار مؤسسات الدولة القديمة أو تقلص فعاليتها في هذه الجغرافيا، بل أيضا إلى تبلور مركز سلطة لمركز اجتماعي جديد، واستحالة دولة(56) نتيجة لذلك. ونشير هنا إلى، أن ميثاق السودان التأسيسي، الذي يؤسس لحكومة الوحدة والسلام في كردفان ودارفور، يمثل أعلى تجلي لظهور نواة دولة السودان الجديد، ذلك أن عقدا اجتماعيا جديدا، تمثل في دستور السودان الانتقالي، قد تبلور بين قوى اجتماعية سودانية مؤثرة ووازنة. وهو ما يعني أن ثورة البوادي هذه، تفتح أفقا واسعا لسودان جديد، الذي يعني، من بين ما يعني، نظاما سياسيا جديدا يجترح مسارا جديدا لتراكم رأس المال، ولتطور القوى الاجتماعية في السودان. ولعل الوقت ما زال مبكرا على الجزم بنجاح ثورة البوادي في خلق دولة جديدة، ولكنه قد تأخر كثيرا لتأكيد أن دولة {56} انهارت في غرب السودان، وأن هنالك فرصة تاريخية كبرى، أمام ثوار البوادي والقرى والفرقان لدكها في كل جغرافيا السودان ككل. ولعل ما يبرر ادعاءانا هذا، أن شروط وجود دولة {56} قد انتفت وأنها الٱن تعاني من الانقسامات، ومهددة بالانهيار الداخلي حتى في جغرافيا سنار التاريخية. لذلك فلترتعد الطبقات الحاكمة تاريخيا في دولة {56} خوفا من ثورة رعوية لا تبقي ولا تذر، ذلك أن ليس لثوار البوادي ما يخسرونه سوى أغلالهم، وأمامهم عالما ودولة جديدة ليكسبونهما؛ فيا مهمشي السودان، في جميع الأقاليم، اتحدوا.
إرسال التعليق